[غيرة عائشة رضي الله عنها وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لذلك]
ذكرنا بعض الصور التي وقعت في بيته صلى الله عليه وسلم ومن نسائه معه، وكيف عالج ذلك، مع أنهن تحزبن عليه، ووقفن ضده، وليس ذلك -والله- حطاً من قدرهن ولا تنقصاً من ذواتهن، بل هو إعلاء لمكانتهن؛ لأنهن فعلن ذلك محبة فيه وحرصاً عليه، وبدوافع الغيرة، ونعلم جميعاً أن المرأة لا تغار على زوجها إلا من دافع الحب؛ فهو من صفات المدح لهن، وليس من صفات الذم، وقد بين لنا تلك الحياة وصورها ليتعلم الرجل ماذا فعل رسول الله، ويتعلمن النسوة كيف فعلن زوجات رسول الله، وهكذا تؤخذ الحياة العملية تطبيقاً من بيته صلى الله عليه وسلم.
أما الدافع الأساسي -كما أشرنا- وهو الغيرة، فإن مبدأ ذلك -أو الغيرة المبسطة، لا المؤامرة- جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات ليلة، تقول: والحجرات ليست فيها المصابيح -ظلام- إذا أطفأوا السراج وناموا لم يروا شيئاً، وكانت السرج بالزيت وفتيلة.
انظروا إلى القناديل التي كانت معلقة في المسجد، كان يوضع فيها الزيت وفتيل، وطرف الفتيل على حافة السراج ثم يشعل بالزيت.
تقول: فقمت أتحسس الحجرة فما وجدته، فتقدمت فوقع كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول: (سبوح، قدوس، رب الملائكة والروح) ، فقلت: والله إني لفي شأن وإنك لفي شأن.
لما وقع كفها على بطن قدمه قالت: لعله كان قد ذهب إلى بعض نسائه واغتسل هناك وجاء يصلي هنا، فلما قام من سجوده وقفت بجانبه، وأدخلت يدها في شعره -وكانت له جمة إلى منكبيه- لتتحسس أثر الغسل، كل ذلك والرسول ساكت، فلما انتهى التفت إليها وقال: (أخذتك غيرتك يا عائشة؟ -أعلمها ما هو الدافع- قالت -ويا لصدق ما قالت! وهو يبين المقدار الحقيقي للتأثر بالغيرة وإن كانت شديدة-: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟) .
وبعض الروايات: أنه جاء من الخارج فوضع ثيابه، ثم اضطجع، ثم سرعان ما قام.
تقول: وتظاهرت بالنوم.
فلما خرج أرسلت بريرة وراءه فأتتها وقالت لها: ذهب إلى أهل البقيع، تقول: فشددت عليّ ثيابي، وخفت أن يرجع من أهل البقيع إلى بعض زوجاته، ووقفت من بعيد، فلما رأته فرغ من السلام عليهم، وبدأ يتحرك عائداً جاءت راجعة، فشعر بها، فأسرع، تقول: فأسرع فأسرعت، إلى أن جئت البيت واضطجعت في فراشي، فلما دخل وضع يده على صدري، وقال: ما هذا يا عائشة؟! أأنت التي كنت أمامي؟ قالت: بلى يا رسول الله؟ قال: أظننت أن يحيف الله بك ورسوله؟ لا يا عائشة.
فهذه -كما أشرنا- أمور جبلية لا يمكن للمرأة أن تتخلى عنها، وكذلك الرجل، لكن فرق بين من يتحكم في دوافع النفس وانفعالاتها ويبين من يضعف أمام ذلك.
نأتي إلى موضوع القصعة والطعام وما ذكره البخاري، وأعتقد أنه لو جاء في غير صحيح البخاري لكنا وقفنا موقف التساؤل؛ لأنهن أمهات المؤمنين، ويقول الله عنهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:٣٣] من كل دنس وشائبة، وسوء خلق، مما ينتقص من النساء، ولابد أن يكن كذلك؛ لأنهن فراش رسول الله، وكان الرجل يتحرى صديقه بالهدية عند بعض زوجاته، وكانوا يتحرون ليلة عائشة ويهدون إلى رسول الله فيها هداياهم.