للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل العلم والعلماء]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .

رواه مسلم] .

أنبه الإخوان إلى نماذج نعيش في كنفها وظلها، إذا نظرنا إلى السيوطي، والسخاوي وغيرهما من العلماء، نجد مؤلفاتهم بالمئات، فهم انتقلوا إلى رحمة الله، والناس يستفيدون من علومهم إلى الآن، وهذا النووي له شرح مسلم والمجموع وغيرهما، وكأنه يعيش معنا، وابن حجر ألف هذا الكتاب، ونحن نعيش معه في تأليفه خطوة خطوة، ووالدنا الشيخ الأمين له أضواء البيان، وأصبح يتداول عالمياً، ويطبع عدة مرات شرعية وغير شريعة بغير إذن أولاده ومستحقيه، وهذا يدل فعلاً على مكانة العلم وانتفاع صاحبه به إلى اليوم.

مالك رحمه الله إمام دار الهجرة أتاه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، وقال: يا مالك! لم يبق في الناس أعلم مني ومنك، أما أنا فشغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وتجنب عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس، قال: فعلمني التأليف ذلك الوقت، فألف الموطأ ثم قرأه عليه، واستمعه منه، وقيل: إنه هارون الرشيد، فقال: يا مالك! ائذن لي أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأنسخ منه نسخاً أبعثها إلى الأمصار ليأخذوا به، ويتركوا كل ما عداه، يعني: نوحد العالم الإسلامي على الموطأ.

فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! قال: ولماذا؟! قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وأخذ كل قطر بما جاءه من الصحابة الذين وفدوا إليه، فعملوا بما وصلهم عن أولئك الصحابة الكرام، والصحابة قد يختلفون في روايات الحديث، فتحويل الناس عما هم عليه صعب، أي: ما داموا قد أخذوا عن أصحاب رسول الله، وأصحاب رسول الله أخذوا عن رسول الله، فهم على حق، وتغييرك مذهبهم ولو إلى حق مثله صعب.

ونحن نتساءل الآن: أين خلافة أبي جعفر؟ ذهبت في أدراج السياسة، أما مالك فموطأه يعمر العالم، ويتدارسه العالم، ويستفيد منه العالم، فما أعظم العلم الذي ينتفع به من الموطأ، وبالمقارنة بينه وبين خليفة المسلمين نجد الفارق عظيماً جداً، الخلافة انتهت بموت الخليفة، وقد يقتل في سبيلها عند تغير الأحداث، ولكن العالم علمه ينتشر، ويكون كالطائر الذي يحلق مدى الحياة، وكمطلع الشمس ومغربها، فبقي الموطأ في أيدي المسلمين، يستفيدون منه، ويسابقون إلى دراسته وتعلمه، ولا شك أن هذا الأثر من العلم الذي ينتفع به، فيستمر ثوابه يصل إلى مالك إلى ما شاء الله.