في هذه السورة يستعيذ المسلم بالله بصفة من صفاته، من كل الشرور مجموعة ومفرقة، بينما نجد السورة الأخيرة:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:١] المستعاذ منه ماذا؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:١-٣] كم صفة من صفات الله جندت للاستعاذة بها؟ ثلاث وهذه صفات الجلال والعظمة:(رب ملك إله) ، فهي صفات الكمال والجلال لله، فهي جوامع صفات العظمة لله، هناك:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:١] صفة من صفات الله، وهي صفة الخلق، ولكن هنا جوامع الصفات:(رب) و (ملك) و (إله) .
المستعاذ منه من هو؟ {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:٤] إذاً: في السورة الأولى اكتفى المستعاذ به بصفة واحدة، يستعاذ بها من جميع شرور ما خلق، وانفلقت عنه الكائنات، وفي السورة الثانية ثلاث صفات تجمع ويستعاذ بها كلها من شر واحد ألا وهو الوسواس الخناس، فماذا نستفيد من هذا؟ نستفيد من هذا -والله تعالى أعلم- بأن الشر كل الشر، والخطر كل الخطر على الإنسان المسلم هو ذاك الشر الذي اجتمعت له صفات العظمة، وبالمناسبة كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين في قضية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم:٤] يعني: ما بقي إلا الجن، يجمع الله سبحانه وتعالى في مناصرة رسوله أمام امرأتين كل هذا، (الله وجبريل، وملائكته، وصالح المؤمنين) كل ذلك يناصرونه عليكما! ولذلك قال الشاعر: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن هن فهنا الشيء بالشيء يذكر، ثلاث صفات من صفات الجلال والكمال تجند وتجمع، ويلجأ الإنسان إليها من خطر واحد؛ لأن أخطر ما يكون على الإنسان في حياته وآخرته الشك الوسواس، الخناس! فالإنسان في دنياه لو وقف موقف الشك من أي عمل ما تقدم خطوة، فبالشك يقدم خطوة ويؤخر خطوة؛ لأنه متردد شاك لا ينتقل من مكانه ولا يمضي، فأمور الدنيا يفسدها الشك، والتردد، ويفسدها الوسوسة في الذهن، وأمور الآخرة من باب أولى، والشيطان لا يفسد على الإنسان دينه إلا بالوسوسة، يأتيه ويوسوس إليه ويشككه في أمره إلى حد بعيد.
إذاً: لكأن القرآن الكريم في سياقه يفتتح بالفاتحة ثم البقرة، ثم ما بعدها بكل التشريعات في أصول وفروع ودنيا وأخرى إلى أن يأتي إلى آخر المصحف الشريف ثم يقول: قف! أنت بين أعداء كثيرين من المخلوقات، استعذ برب الفلق من جميع ما خلق، وأمامك العدو الخطير، استعذ بالله وبصفات جلاله وكماله من شره، لأنك إذ لم تلجأ إلى الله فلن تنجو منه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:٢٠٠] .
إذاً: تأتي هاتان السورتان وتبين لنا ما يحتاج إليه الإنسان في حياته.
ومرة أخرى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة: عود على بدء، أول سورة الفاتحة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:٢-٤] الربوبية والألوهية والملك تجدها في سورة الناس مجتمعة، فكأن القرآن في آخره يردك إلى أوله لتكون كالكار الفار، وهكذا يرتبط آخر القرآن بأوله في تمجيد المولى سبحانه وتقديسه، والله تعالى أعلم.