للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (المؤمن يموت بعرق الجبين)]

وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يموت بعرق الجبين) رواه الثلاثة وصححه ابن حبان.

بعدما قدم المؤلف رحمه الله تعالى في أوائل كتاب الجنائز حديث: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان لابد متمنياً أو لا محالة فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الممات خيراً لي) وقد تقدم الكلام على هذين الحديثين أعقب ذلك ببيان حالة موت المؤمن، فأورد قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يموت بعرق الجبين) هذه حالة يبينها صلى الله عليه وسلم من غالب وأكثر حالات الموتى المؤمنين، ثم نجد العلماء يذهبون في تفسير عرق الجبين إلى جانبين: جانب لفظي في موضعه، ومعروفٌ الجبين، وعرق الجبين يكون في حالة الشدة عند النزع.

وقومٌ يفسرونه بجانب آخر وهو: الكد والكدح، أي أن المؤمن يسعى ويكدح ويعمل حتى يعرق جبينه فيأتيه الموت وهو على هذه الحال، سواءً كان هذا العمل لكسب الرزق، أو كان هذا العمل للعبادة، ولكن هذا الوجه ضعيف، والصحيح الأول؛ لأن الموت له شدة، وقد جاء: (اللهم هوّن علينا سكرات الموت) ولما دخلت فاطمة رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع قالت: (واكرباه عليك يا أبتي! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا ابنتي) وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضب فيه ماء -إناء صغير- إذا اشتد عليه أمر الموت غمس يده في الماء، ثم مسح بها جبينه) وذلك لشدة ما يعاني.

وجاء عند الترمذي: (نفس المؤمن تخرج رشحاً) والرشح وعرق الجبين سيان، فهذا مما يؤيد المعنى الأول، وهو عرق الجبين كناية عن شدة المعاناة، وكذلك أيضاً عن سرعة النزع فلا يطيل إطالةً شديدة حتى يتعذب في ذلك.

ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (إن نفس المؤمن تخرج رشحاً، وأعوذ بالله من موتةٍ كموت الحمار، قيل: وما موت الحمار يا رسول الله؟! قال: موت الفجأة) فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ميتة المفاجأة.

وقد بين العلماء بأن مفاجأة الموت تفوت على الإنسان أشياء كثيرة؛ فقد يكون في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، قد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر الآخرة أو الموت، فيفوت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، وبعض الناس يرى موت الفجأة راحة من آلام النزع، وهذا خطأ؛ فإنه وإن كان في النزع شدة ولكن كما قيل: تزول، فهي آلام مؤقتة، ولكن يكون عند المؤمن فرصة في هذا الوقت الحرج بأن يوادع الدنيا بوصية صالحة، ويستقبل الآخرة بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله أو كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) وسيأتي الكلام عليها فيما بعد كما سمعنا إن شاء الله.

إذاً: المؤمن يموت بعرق الجبين، كناية عن الشدة والحالة التي تعتري الإنسان في حالة النزع وخاصةً المؤمن، وقد جاء في الحديث في الابتلاء: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) وهكذا جاء في بعض الآثار (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاني أشد ما يعاني أشد الرجال) وكان صلوات الله وسلامه عليه يصبر على ذلك ويسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف.