هل الوكيل الذي في خيبر يعلم أن رسول الله أرسل جابراً ليأخذ منه هذه الأوسق؟ هل عنده خبر؟ ما عنده خبر، والرسول لم يسبق أن أرسل إليه: سأرسل إليك جابراً، ولكن في بعض الروايات أنه قال لـ جابر:(فإذا طلب منك أمارة فأمسك ترقوته) ، والترقوة: العظم المحيط بالعنق، يعني: إذا كلمته فأمسكه في ترقوته، وهذه هي الشفرة، أي: كلمة السر والعلامة حتى يصدقك بأنك وكيل من عندي، ولا أحد يعرف أن هذا بيني وبينك، وما يعرفها إلا أنا، فإذا أبنتها فهي العلامة، وهي أصدق من البرقية، فالبرقية يمكن أن تزور، وهذا نوع من المعاملات مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته مع الناس، فكان يتعامل معهم كغيره من البشر، ما قال له: سيأتيك جبريل ويقول له: كذا، لا؛ لأن التعامل مع الناس يحتاج إلى منهج بشري يستطيع كل إنسان أن يطبقه، كما قال:(إنكم تختصمون إلي، وأنا بشر أقضي على نحو ما أسمع) ، هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في أبسط الأشياء، جاءه الوحي بأن يخلع نعليه؛ لأن فيهما أذى، فخلع نعليه في الصلاة بعد التكبير، فلماذا في القضاء لم يأته جبريل ويقول له: الحق مع هذا والباطل عند هذا؟ يذكرون في تاريخ القضاء -والله أعلم- يذكره صاحب معين الحكام أنه كان في زمن نبي الله داود؛ إذا أرادوا أن يحتكموا، كانت سلسلة معلقة في سقف المجلس، فإذا تقدم المدعي قال: مد يدك إلى السلسلة، فإن كان محقاً تدلت السلسلة حتى يمسكها بيده، وإن كان مبطلاً بعدت عنه، وإذا أنكر المدعى عليه، قال: مد يدك، فإن نالها عرفنا أنه صادق، وإذا لم ينلها عرفنا أنه كاذب، ويقولون: جاء رجل وادعى على رجل أنه ائتمنه أمانة، ثم طلبها منه فجحدها، فلما علم الخصم أنه تقدم إلى نبي الله داود، وأن السلسلة ستفضحه احتال، فأخذ الأمانة وهي دنانير، فنقر عصاه، ونزل فيها الدنانير حتى ملأها وكبسها، وجاء يتوكأ عليها، فتقدم المدعي الذي له ألف الدينار فطولت السلسلة، فمد يده فأمسك السلسلة، فأنكر المدعى عليه، وقال: أبداً ما له عندي شيء، فقال: أمسك السلسلة، فقال لخصمة: امسك العصا حتى أمسك السلسلة، وفي هذه اللحظة كان حق المدعي عنده، وليس عند المدعى عليه، فمد يده فأمسك السلسلة، وما يمكن أن الاثنين يكونان صادقين، كما جاء في حديث اللعان:(الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، فلا يمكن الإثبات والنفي في وقت واحد، فأبطل السلسلة عندما وجد تحايل عليها، وفي الحديث:(البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) .
وهذا من باب الشيء بالشيء يذكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع عامة الناس كفرد من الأفراد؛ لأن هذا منهج التعامل مع البشر، ولو أنه كان يعاملهم على منهج الرسالة والوحي، فكيف يفعل من بعده؟ فمثلاً في القضاء قال:(أقضي على نحو ما أسمع) ، فلو جاءه جبريل وقال له: هذا محق، وهذا مبطل، وبعده من سيأتي للقضاة؟ لن يأتيهم جبريل، لكن عندهم ما هو في طاقة البشر، القضاء على نحو ما يسمع، وهناك أيضاً فراسة القاضي أو إلهام ونور من الله للقاضي يساعده به على الحكم.
إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام له وكيل، والوكيل كان ينوب عنه، وكان بينه وبين الوكيل مثلما يكون بين الموكل ووكيله في العالم كله، من علامات أو أمارات.