للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حرمة سفر المرأة من غير محرم]

قوله: (ولا تسافر امرأة بغير محرم) السفر بصفة عامة يكون للحج ولغير الحج، والمؤلف ساقه فيما يتعلق بالحج؛ لأن الرجل الذي قام وسأل ربط السفر بالحج، ولا تسافر المرأة بغير محرم، والسفر ليس مطلق النقلة، بل له حدود ومسافات، وجاء مسيرة يوم وليلة، (مسيرة) في اللغة: مفعلة، تصلح مصدراً ميمياً، وتصلح: اسم زمانٍ ومكان، فعلى أنها اسم زمان يكون النهي أن تسير يوماً وليلة قطعت فيها عشرة أميال أو آلاف الأميال، ويكون النهي متعلقاً بجزء زماني وهو: اليوم والليلة، وعلى أنها اسم مكان: يكون النهي عن أن تسافر مكاناً، ومسافته تقطع عادة في يوم وليلة، حتى ولو قطعتها في ساعة واحدة.

إذاً: (مسيرة) هنا تحتمل الأمرين، وقد وجدنا أن بعض العلماء يأخذها على الناحية الزمنية، فإذا سافرت أقل من يوم وليلة، -ولو قطعت مئات الأميال- لم تبلغ الحد الذي نهيت عنه، ومن حمله على المكان قال: لا تسافر تلك المسافة التي من عادتها أن تقطع في يوم وليلة، ولو سافرتها في ساعة واحدة.

ونجد ابن حجر رحمه الله في فتح الباري يفرق فيما يتعلق بقصر الصلاة والفطر في رمضان، فيجعله من باب المكان، وعموم السفر يجعله من باب الزمان، والمسألة مشتبهة جداً وخطيرة، والغرض من ذلك: الحفاظ على المرأة من أن تخلو في سفرها؛ لأنه كما يقال: يخشى عليها من ذئاب الخلاء، وحينئذٍ إن اضطرت إلى سفر فهل تسافر أم لا؟ والنهي هنا هل هو للتحريم أو للكراهية؟ نجد القول متشعباً ومتعدداً في هذا الأمر، ولكن عندما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البيان، فالرجل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن تسافر المرأة بغير ذي محرم، فأدرك المعنى، وهو يعلم أن زوجته خرجت للحج، وهو جالس وليس معها محرم، فقام وسأل: ماذا أفعل؟ ما هو الحكم؟ وقد اكتتبت في غزوة كذا؟ فهنا مقارنة بين أمرين: أن يصحب الزوجة لتكون ذات محرم في الحج، أو أن يذهب إلى الغزوة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذهابه مع زوجه ليحج معها، حتى لا تحج بغير محرم، فلكأن وجود المحرم مع المرأة أهم من وجوده في تلك الغزوة، والمشاركة في الغزوة بالنسبة له من باب فروض الكفاية؛ لأنهم لم يهاجموا، والقتال يكون فرض عين على كل شخص حتى النساء إذا داهم العدو البلد، ويكون فرضاً كفائياً، إذا كان بعيداً عن بلده، والقوة موجودة، والعدد متوفر، ويكون من النافلة إذا توفر العدد الكثير ولم يتوقف عليه.

وهكذا رجح النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة بين هاتين العبادتين، فقال: (اذهب وحج مع امرأتك) .

ربما يقول البعض: إن تلك المرأة التي خرجت للحج كانت برفقة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولكن في النفس من ذلك شيء؛ لأن حجة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت في السنة التاسعة، وفتحت مكة عام ثمانية من الهجرة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس سنة تسع، وأي غزوة كانت في سنة تسع؟ لا نعرف إلا غزوة تبوك، وهي لم تكن في وقت الحج.

إذاً: كونها في صحبة، أو رفقة أبي بكر هذا فيه نظر.

وهنا نجد بعض علماء الحنابلة يقولون: لا تتم استطاعة المرأة للحج، ولا تلزمها الفريضة إلا باستطاعتها في ذاتها وأيضاً كونها مستطيعة لمحرم يحج معها؛ لأنها في حاجة إليه، ونفقته عليها إن لم يكن خرج للحج عن نفسه معها.

ونجد الشافعي رحمه الله يرى أن ذلك النهي للكراهية، ويقول: إن كانت الحجة فريضة، ووجدت رفقة مأمونة من النسوة وغيرهن سافرت معهن، فهي عندما تكون في جماعة النسوة معهن المحارم، فإنها تخدم وتحفظ وتصان مع النسوة فتكون في مأمن.

والنووي يدلل على هذا الجانب فيقول: لو أن امرأة خرجت مع محرمها، وفي منتصف الطريق مات المحرم، ماذا ستفعل تلك المرأة؟ أتبقى في مكانها في خلاء؟ أم ترجع إلى بلدها وحدها؟ إذاً: تمضي مع الرفقة حتى تتم حجها.

ثم جاءوا واستدلوا أيضاً بحديث الظعينة التي تسير بين يثرب والحيرة لا تخاف على راحلتها السرق، قالوا: فهذه ظعينة تسير وحدها، وأجاب الآخرون: بأن هذا إخبار -في الجملة- عن استباب الأمن، ولكن ليس فيه جواز مسير المرأة بغير محرم، ولا ينبغي أن ننصب التعارض بين هذين الحديثين، ولا سيما مع طول الزمن وفساد الحال.