للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشبهة الواردة فيما يتعلق بالطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود]

نحن نبدأ طوافنا بالتكبير عند استلام الحجر مع تقبيله، ونحن نقبل الحجر ونطوف حول الكعبة وهي من الحجارة، ألم تكن مصيبة العرب في الجاهلية هي تعظيم الأصنام؟ فبعض أمراض القلوب يقول: كيف تعيبون على المشركين تكريم أصنامهم التي من حجارة أو ذهب أو خشب، وأنتم تأتون تقبلون الحجر وتطوفون حول الحجارة؟ ما الفرق بينكم وبينهم؟ يعني: هل حجارتكم أفضل من حجارتهم؟ وهذه كما يقال: شبهة رهيبة جداً؛ لأن أعداء الإسلام دخلوا على ضعاف النفوس بهذه الشبهة، وقالوا: تلك وثنية في الدين، وأقول وللأسف: بعض المشايخ -أول ما طرق سمعي شيء من الفقه، ونحن صغار في المدارس الابتدائية- من كبار العلماء في منطقته، جاء إلى الحج ولم يستلم الحجر، فأخبرني بعض من كان معه، وقال لي: سله، فسألته لماذا لم تقبل الحجر؟ فقال: هل صحيح أن النصوص فيه صحيحة؟ قلت: إذا كان مثلك يسأل في هذا فما بال العوام؟! أما رأيت الملايين من الناس يستلمونه، وأنت وحدك تنفرد في ترك ذلك؟! قال: لم أقتنع بصحة الحديث، فماذا تقول لمثل هذا؟ وكتبت كتابات في ذلك مثل: وثنية الإسلام، وكتبت ردود عليه: لا وثنية في الإسلام، ويأتون بأشياء بعيدة عن صلب الموضوع، ونحن عندنا أمران: الأمر الأول: أن الإسلام استسلام، إذا أمرنا الله أن نقبل حجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للحجر، وإذا أمرنا أن نقبل شجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للشجر، فنحن كما وجهنا الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢] ، وقد بين الله ذلك على لسان الملهم المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وبكل جرأة يرشد العالم عليها حينما جاء يقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع -يعني: لا أرجو فيك خيراً، ولا أرهب منك ضراً، سواء قلنا: نزل من الجنة فهو حجر أو كان من جبل أبي قبيس فهو حجر -ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهنا لنعلم ولنتأكد ولتكن قاعدة في كل الأمور التي ترتفع عن مستوانا: عمر هل عمل بهذا المعقول الذي عنده أم أنه ألغاه؟ ألغاه، لماذا؟ لما هو أصدق وما هو آكد وأعلم.

فمن لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٤-٥] جاء وقبله، إذاً عنده من العلم ما ليس عندي، وعنده ما يعتمد عليه، وأنا ملزم باتباعه، فـ عمر قبل الحجر استسلاماً وتأسياً واقتداء بمن هو أعلم منه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر، أو أمرنا المولى في كتابه بأمر، وعقولنا لم ترتفع إلى مستواه، ولم تدرك معناه؛ نلغي العقل، ونعطيه إجازة، ونمضي في الطريق الذي لا مرية فيه ولا شك.

الأمر الثاني، وهو الجانب الأصولي: عندما تطوف تبدأ تقبل الحجر، ثم تطوف بالحجارة المرصوصة، وتأتي تصلي ركعتي الطواف خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:١٢٥] وتقرأ: (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، فأنت تأتي وتصلي لمن؟ لله؛ إذاً: لا وثنية، عندما تجعل الركعتين خلف مقام إبراهيم لله، ومن هو إبراهيم؟! قال تعالى عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٠] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥] ، إذاً: أنا مقتد بإبراهيم ولم أعبد الأصنام، بمجرد ما تتجه للصلاة خلف مقام إبراهيم، فإذا كنت في هذه الصلاة تعلنها: (يا أيها الكافرون) يا عباد الأصنام! حجارة أو ذهباً أو خشباً أو ما شابه ذلك، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:٢] فتعظيمكم للأصنام والحجارة هذا شرك لأنكم لم تؤمروا به، وتقبيلي للحجر عبادة لأنني أمرت بها، لكم دينكم مع أصنامكم، ولي دين مع ربي، وتأتي بعد ذلك بسورة الإخلاص، ومعنى ذلك أعلنها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] هل بعد هذا من ادعاء شبهة وثنية في تقبيل الحجر أو الطواف بالبيت؟ لا والله، ومقام إبراهيم فيه آيات بينات، وهي آثار القدم، يقول الفخر الرازي: أقدام إبراهيم في الحجر آية لوحدها، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:٩٧] ، فجعل مقام إبراهيم آيات، وموضوع المقام أن القدمين غاصت في الحجر وعملت فيه، قال: نعم، عندما يكون الحجر صلباً، ثم تأتي بمثقل، فإذا بحدود الحجر تلين ويغوص فيها المثقل، وبقية الحجر بقيت على ماهيتها، إذاً: موضع القدمين في ليونتهما وانطباع القدم فيها آية، وبقاء بقية الحجر صلباً آية؛ لأن الليونة لو وقعت عليها جميعها يمكن أن يقال: هذا عامل كيماوي أو عامل سحري.

، نحن نعلم إذابة الحجر والنحت على الحجارة كيف يكون، بالألفونيا مع النشادر، تسحق بمقدار معين أو متساو ثم تحطها، هذه الكتابات التي على الرخام عملها يكون بتغطية صفحة الرخام بالشمع ثم تأخذ الريش، وتكتب ما تريد بأي نوع من الكتابة، فتحفر الشمعة حتى ينكشف الرخام، ثم تملي هذا المحفور بالألفونيا مع النشادر بمقادير متساوية، ثم تقطر عليها من حمض الكبريت، فإذا به يتفاعل ويأكل الرخام تحته، فإذا انتهى إلى العمق الذي تريد صببت عليه الماء فيتوقف عن التفاعل، ثم تزيل الشمع بعد ذلك، فتخرج الرخامة مكتوباً عليها بأحسن ما يكون، ما حفرت باليد وإنما صنع لها مواد كيماوية، فلو أن الحجر كله ذاب يمكن أن يقال: هذه مادة كيماوية أكلته، لكن لا، البعض يلين وينطبع فيه القدم، والبعض يبقى على حجريته، إذاً: فما لان الحجر إلا بقدرة الله، فهذه آية، وقد وجدنا قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٧٤] ، فإذا كان الأمر كذلك فنحن نقول: لا وثنية.

ونرجع ونقول: إن القراءة للفاتحة في ركعتي الفجر ثابتة بهذا الحديث، وقراءة السورتين والمداومة عليهما ربط بين حياة الإنسان العملية، وبين عقيدته فيما بينه وبين الله، وبالله تعالى التوفيق.