لعلكم تذكرون قضية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، حينما قال عبد الوارث: والله لأنتهزها فرصة، ثلاثة علماء من قطر واحد، وسأل أبا حنيفة عن بيع وشرط، فقال: البيع والشرط فاسدان، ثم سأل ابن أبي ليلى قال: البيع صحيح والشرط صحيح، ثم سأل ابن شبرمة قال: البيع صحيح والشرط باطل، فتعجب! فرجع إلى أبي حنيفة، وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا، قال: ما عليَّ مما قالا لك، ولكن الشرط والبيع فاسدان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وحملها على عمومها، فذهب إلى ابن أبي ليلى فقال: ذكرت كذا، وذكر أبو حنيفة كذا، وابن شبرمة كذا، فقال: ما علي مما قالا لك، البيع صحيح والشرط باطل، وذكر له قضية بريرة؛ لأن أهلها اشترطوا عليها الولاء، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط، فذهب إلى ابن أبي ليلى وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا وكذا، قال: ما علي، العقد صحيح والشرط صحيح، وذكر حديث جابر، وهذا هو أدب العلماء، واحترام الرأي، وكل يستدل بما وصل إليه، ولم يأت أحد منهم -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- بشيء من عنده، ولكن تعددت النصوص، واختلفت الأفهام.
ويقول عمر بن عبد العزيز: والله ما أحب أن لي حمر النعم ولم يختلفوا؛ لأنهم لو كانوا كلهم على رأي واحد، لشق على الناس، ولكن رحمة من الله سبحانه، فإذا كان الخلاف له أصل، والرأي له دليل؛ فلا يحق لإنسان أن يعترض على ذلك، ولا أن يتناول صاحب الرأي بالكلام، ويجب أن نفرق بين القول والقائل، فإذا وجهنا نقداً أو اعتراضاً فإنما يكون للقول، لا للقائل، والقائل مصون في مكانه.
وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ووجدناه يعقد بيعاً وشرطاً مع جابر، ووجدناه يعقد عقداً ويبطل شرطاً مع عائشة في بريرة.
وهكذا يجب ويتعين على طالب العلم أن يتأنى، ويتريث، في ما يصله عن سلف الأمة، ولا يحق له أن يتكلم في مسألة حتى يجمع أطرافها، ولا يحل له أن يفتي في بيع وشرط، حتى يلم بهذه الأحاديث كلها، وإذا وجد غيرها يضمها إليها؛ ليقف على مجموع الروايات، ومجموع الأحاديث، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: لا يحق للإنسان أن يتكلم في مسألة إلا إذا جمع نصوصها، وجمع أطرافها، وعلم العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والمتقدم من المتأخر، إذا علم ذلك كله في المسألة كان لفتواه ولقوله أصل.
وقد ذكرنا مراراً أن أحمد رحمه الله سئل: من حفظ ألف حديث له أن يفتي؟ قال: لا، فقيل: ألفين؟ قال: لا، فقيل: ثلاثة آلاف إلى خمسة؟ قال: لعله! نقول هذا لأنفسنا، ولبعض الإخوة الذين يبادرون في الفتوى، ولو سألت واحداً منهم: أن يذكر عشرة أحاديث بأسانيدها -أنا شخصياً لا أستطيع أن أذكرها بأسانيدها- لا يستطيع، أما المتن فلعله يعلق في الذهن، ولو قلنا: من يحفظ متن ألف حديث، أظن أنه رصيد كبير جداً، لكنه عند أحمد يُعد مفلساً، الذي يحفظ ألف حديث بالنسبة لميزانية أحمد في الأحاديث: يعتبر مفلساً، ونحن نعتبر من حفظ خمسمائة حديث الآن حافظاً كبيراً.
إذاً: هذا الموضوع يجدد لنا: النظر، والتأني، والتأمل، وحفظ كرامة سلف الأمة وأقوالها، والله تعالى أعلم.