للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الصلاة بعد العصر]

قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فسألته، فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن، فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا) أخرجه أحمد، ولـ أبي داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمعناه] .

تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وقد علم الجميع ذلك، ثم رأت أم سلمة الحكيمة رضي الله تعالى عنها من النبي عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك.

وأنا أسميها: الحكيمة لمواقف عديدة صدرت منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها بعد العصر فإذا به يصلي! وهي تعلم منه أنه (لا صلاة بعد العصر) ، فحملت ذلك منه على النسيان، فقالت لجارية عندها: قومي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولي له: كنت تنهى عن الصلاة بعد العصر، وها أنت تصلي بعد العصر، قالت: ثم تأخري عنه، يعني: ذكريه إن كان ناسياً، فاستمر صلى الله عليه وسلم في صلاته، ولما صلى الركعتين انقلب إليها يعلمها، فقال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر) ، ونحن نعلم أن للظهر سنة: ركعتين قبلها، وركعتين بعدها، أو أربعاً قبلها أو أربعاً بعدها.

قال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني وفد عبد القيس بأموالهم -وفي رواية:- بإيمانهم، فشغلت بهم عنهما، فها أنا أصليهما) ، فبين صلى الله عليه وسلم سبب صلاته هاتين الركعتين بعد العصر، ففهمت أم المؤمنين أنه قضاهما؛ لأن سنة الظهر ينتهي وقتها بصلاة العصر؛ لأنها صلاة مرتبطة بالظهر، والسنن الرواتب مرتبطة بفريضتها، فأدركت أنه يقضيهما وليستا أداء، ولهذا قالت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ تعني: إذا فاتتا علينا نحن أيضاً، بأن انشغلنا عنهما، فهل نقضيهما أيضاً بعد العصر؟ فكان جوابه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا) ، ثم إنه داوم على هاتين الركعتين بعد العصر؛ فيقول الجمهور: من القواعد الأصولية أنه صلوات الله وسلامه عليه إذا أمر بشيء ولم يفعله فهذا من خصوصياته، أو نهى عن شيء وفعله فهو من خصوصياته، مثاله لما جاء أبو أيوب بطعام فيه من البقول، فأمرهم عليه الصلاة والسلام بأكلها ولم يأكل هو منها، فعدم أكله منها وهي مطبوخة من خصوصياته، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: أميتوها طبخاً، يعني: تلك البقول التي تجعل في الطعام من بصل ومن ثوم ومن كراث ونحو ذلك، الشاهد أنه أمرهم أن يأكلوها، وامتنع هو، فكان امتناعه منها خاصاً به.

وكذلك هنا نهى عن الصلاة بعد العصر وصلّاها، فكانت صلاته لها وقد نهى الناس عنها من خصوصياته، لكن قال بعض العلماء: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ركعتين كل يوم بعد العصر مع المداومة عليها مشكل، وليس هناك موجب للقضاء، وليس هناك ما يشرعها من جديد، فأجاب بعض العلماء بأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا بدأ عملاً داوم عليه ولا يقطعه.

ومن أمثلة ما نهى عنه وكان يفعله لأنه من خصوصياته: الوصال في الصوم، فإنه نهى عن الوصال وواصل، فكان الوصال من خصائصه، ولذا عندما ألحوا عليه في وصالهم مثله، قال: (لست كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، ولا ينبغي الخوض بالعقل في هذا، والتساؤل ماذا كان يطعمه؟ وماذا كان يسقيه؟ وإذا أطعمه وسقاه فهل يكون ذلك وصال مع أنه يأكل ويشرب مما يطعمه ربنا ويسقيه أم ليس هناك وصال؟ نقول: لا، فالشهداء عند ربهم يرزقون، ونحن لا ندري كيف يرزقون، وماذا يرزقون، فكذلك صلى الله عليه وسلم يعطيه ربه قوة الطاعم والشارب، فيعطيه قوة، ويعطيه عوناً، ويعطيه ما شاء، وهذا لا دخل لنا فيه، قال: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، فنقول: نعم، كما قال صلى الله عليه وسلم.

إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هاتين الركعتين بعد العصر، وجاء عن زيد بن خالد أنه صلى بعد العصر ركعتين فرآه عمر، فضربه بالدرة وهو يصلي، فلما انتهى من صلاته، قال له: اضرب يا أمير المؤمنين! فهما ركعتان أصليهما ولن أتركهما، فقال: يا زيد! ما ضربتك عليهما إلا أني خشيت أن يصلي الناس بعد العصر فيتمادوا في صلاتهم حتى غروب الشمس، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس، فـ عمر كان يضرب من يصلي بعد العصر.

وابن عمر كان يروي حديثاً: (لا تحروا بصلاتكم غروب الشمس) ، فـ ابن عمر كان يرى جواز الصلاة ما لم تصفر الشمس، وعمر كان يضرب الناس على الصلاة من أول الوقت سداً للذريعة، أي: مخافة أن يصلي هذا في أول الوقت، ثم يأتي الثاني وينظر إليه فيصلي، ويأتي الثالث بعده فيصلي، وهكذا يتوالى الناس بالصلاة بعد العصر مباشرة والشمس بيضاء، ثم تمتد صلاة الناس إلى غروب الشمس، وكل واحد يتابع الذي قبله، فـ عمر منع من ذلك سداً للذريعة.

إذاً: يهمنا من هذا الحديث أنه لا صلاة بعد العصر كما تقدم البحث فيه، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر اعتبرها العلماء من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.