[مسألة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء على الإطلاق]
ورفع اليدين كثر الكلام فيه، وحصل فيه النقاش والإساءة في المفاهمة بين الإخوان، وقد سمعت أن بعض الإخوان المنتسبين إلى طلبة العلم يقول: بعض الناس عند الدعاء يخشع ويبكي، وإذا سمع القرآن لا يتأثر، فنقول: هذا ليس بصحيح، بل القرآن أشد تأثيراً، كما قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الزمر:٢٣] ، لكن يا إخوان! لما قام الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر في العريش، هل قام يقرأ:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ.
} [البقرة:١-٢] ، وهل قام يقرأ:{يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:١-٢] هل قام يقرأ كتاب الله أو قام يلتجئ ويتضرع إلى الله بالدعاء ويقول: (اللهم! أنجز لي ما وعدت، اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد) ؟ الجواب: كان اجتهاده في الدعاء، وكان رافعاً يديه مبالغاً في رفعهما، حتى إن رداءه كان يسقط من على كتفيه، فيقوم أبو بكر ويرد عليه الرداء ويقول: حنانيك يا رسول الله! بعض ذلك يكفي، إن الله منجز لك ما وعد، فاستكثر أبو بكر هذا، وأشفق على الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كل موطن له حالته، ولكل مقام مقال، ونحن حينما نقرأ القرآن الكريم إذا جئنا إلى قصة موسى عليه السلام مع فرعون ووو فما هو الذي سيخشِّع ويبكِّي؟! فهو سرد تاريخي لقصة رسول مع عدوه، وأمثال هذا، لكن حينما تأتي الآيات التي فيها رقائق، والتي فيها وعد ووعيد، فهذا هو الذي يحرك الشعور ويحرك العاطفة، وربما تذرف منه العين، فقد جاء أن ابن مسعود قرأ على النبي من سورة النساء حتى بلغ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}[النساء:٤١] ، فقال له: أمسك، وذرفت عيناه؛ لأنه تذكر ذلك الموقف، وتذكر تلك الحالة، التي قال الله عنها:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:٣٤-٣٥] وقال سبحانه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}[الحج:٢] ، إذاً: البكاء يكون في مواطن، وليس في كل حالة.
والدعاء عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم:(الدعاء مخ العبادة) وقال: (الدعاء هو العبادة) قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}[غافر:٦٠] فقال: (عن عبادتي) ولم يقل: عن دعائي، مع أن المذكور في أول الآية هو الدعاء، ولكن الله سبحانه وتعالى في هذا الأسلوب وضع العبادة موضع الدعاء ليبين أن العبادة والدعاء متساويان.
ومثل هذا قوله سبحانه:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ}[آل عمران:٩٧] ولم يقل: (ومن لم يحج) وإنما قال: (ومن كفر) إذاً: من لم يحج وهو مستطيع تساوي: من كفر.
وعلى هذا يا إخوان! فإن الواجب على الإنسان أن يكون في حالة دعائه إلى ربه حاضر القلب، خاشعاً، متذللاً، ضارعاً إلى الله كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الملتزم، فنظر إليه عمر فإذا به يبكي، فقال:(أتبكي يا رسول الله؟! قال: نعم يا عمر! هاهنا تسكب العبرات) وهل كل مكان مثل الملتزم الذي عند باب الكعبة؟ الجواب: لا، ليس كل مكان مثله.
إذاً: الدعاء له أوقاته، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) ولهذا يحرم عليك أن تقرأ القرآن وأنت ساجد، وإنما تدعو وتجتهد في الدعاء.