قال رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل) أخرجه مسلم] .
هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن سترة المصلي) ، لم يبين في الرواية صيغة السؤال عن السترة، هل هو عن حكمها، أو بعدها، أو شرطها، أو شكلها؟ لم يبين في الرواية شيء من ذلك، ولكن الجواب يوحي بنوعية السؤال، فإنه سئل عن سترة المصلي، ولم يقل: تكون بعيدة أو قريبة، ولم يقل: هي واجبة أو مندوبة، ولكن قال:(مثل مؤخرة الرحل) ، والرحل له خشبتان: خشبة من الأمام، وخشبة من الخلف، وليست متينة كثيراً، وليست طويلة، يقول العلماء: مؤخرة الرحل قريبة من عظم الذراع، والذراع من المرفق إلى طرف الأنامل، وعظم الذراع من الكوع إلى المرفق، فالسترة تكون واضحة بارزة للمار مثل مؤخرة الرحل، فالسؤال كان عن حجمها، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن تحمل العنزة بين يديه، فكان إذا خرج إلى المصلى في العيد، أو كان في السفر وحضرت الصلاة؛ غرزت العنزة في الأرض، فيصلي إليها، والعنزة: نوع من العصي في طرفها قطعة من الحديد، ولذلك يمكن أن تخترق الأرض، فكانت تغرس في الأرض، وتكون قائمة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأقل ما يكون في السترة مثل مؤخرة الرحل، فإن وجد مثل هذا القدر في المتن وفي الطول فهذا المطلوب، فإن لم يجد مثل ذلك فسيأتي بيان ما الذي ينوب عن مؤخرة الرحل.
تنبيه: لا ينبغي للمصلي أن يصمد إلى السترة ويجعلها بين عينيه ويسجد إليها، ولكن يجعلها مائلة إلى أحد الجانبين يميناً أو يساراً، لحديث:(إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فلا يعمد إليه عمداً، ولكن يجعله عن يساره أو عن يمينه) ، ولفظ الحديث قدم اليسار على اليمين، مع أن اليمين أفضل، وكان ومن حقه التقديم، ولكن السترة بالنسبة للمصلي كأنها إمام له، والواحد إذا صلى مع الإمام يكون موقفه عن يمينه، والإمام عن يساره، فيجعل السترة موقع الإمام.
واعلم أن الإمام في الجماعة سترة للمأمومين وراءه.
فينبغي للمصلي ألا يعمد إلى السترة فيكون في صورة من يسجد لغير الله، ومن هنا كره العلماء أن يتخذ المصلي سترة من إنسان جالس أو حيوان؛ لأنه إذا سجد والإنسان بين يديه فكأنه يسجد لمخلوق، وكذلك الحيوان، اللهم إلا إذا كان في السفر، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان ينيخ راحلته، ويصلي إليها، ويجعلها سترة له من الناس، والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث الذي فيه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السترة كان في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع، يعني في آخر الأمر، ولم يأت ما ينسخ ذلك، فمشروعية السترة باقية، وما سمعنا بحديث ينسخها.