وعند هذه الرواية:(أنسى كما تنسون) تأتي رواية أخرى وهي من بلاغات مالك رحمه الله ومراسيله التي بلغت فوق الستين نصاً، ولم يذكر لها مالك سنداً، ولكن العلماء تتبعوا تلك البلاغات والمراسيل فوجدوا لها أسانيد عند غير مالك إلا أربعة أحاديث لم يجدوا لها سنداً كما يقول ابن عبد البر رحمه الله، ولكن جاء وابن الصلاح وغيره فتتبعوا تلك الأربعة فوجدوا لها أسانيد عند غير مالك، ومن تلك الأربعة على ما أذكر: ما يتعلق بليلة القدر؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:(أُريت أعمار أمتي وأعمار الأمم) فاستقل صلى الله عليه وسلم أعمار الأمة؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والأمم الذين قبلها كانوا يعمرون طويلاًَ، فاستقل أعمار الأمة، وكيف تحصّل مع أولئك نصيباً في الجنة! فأنزل الله سبحانه:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:١-٣] ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس:(كان فيمن قبلكم رجل حمل السلاح ألف شهر يقاتل في سبيل الله! فقالوا: وماذا نحصل مع هؤلاء من عمل الخير؟ فأنزل الله سبحانه سورة القدر، وفيها ليلة خير من عمل الذين قبلهم) فهذا أحد الأحاديث الأربعة.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة) .
يقول مالك: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نشأت) أي: السحابة، وقوله:(بحرية) أي: من جهة البحر، والبحر في غرب المدينة، وقوله:(ثم تشاءمت) لأن السحابة التي تنشأ غرباً إما أن تستمر إلى الشرق وإما أن تنحرف إلى الجنوب، وإما أن تنحرف إلى الشمال، فهنا صلى الله عليه وسلم في هذا البلاغ يقول:(إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت - أي: اتجهت إلى الشمال أو إلى الشام - فتلك عين غديقة) يعني: هذه السحابة عين غدق ماؤها، أي: ممطرة بإذن الله سبحانه.
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أنسَى ولكن أنسّى لأسن) .
والرابع: أظنه قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (حسن خلقك للناس) الحديث أو غيره.
فهذه أربعة بلاغات لم يوجد لها سند سوى إيراد مالك لها، وهذا كلام ابن عبد البر، وابن عبد البر قد أفرد البلاغات والأسانيد في التمهيد في الجزء الأخير؛ والكتاب مطبوع كله، فجاء -كما أشرنا- بعض العلماء وتتبع هذه الأربعة، فوجد لها أسانيد عند غير مالك؛ منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو غير ضعيف، والذي يهمنا هو هذا الأثر الثالث، والعلماء يبحثون هذه المسألة على الروايتين؛ الأولى:(إنما أنا مثلكم) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}[الكهف:١١٠] ، فبعامل البشرية قالوا: يجري عليه صلى الله عليه وسلم ما يجري على عامة البشر من الأمور الجبلية، والآخرون قالوا: كيف ينسى وهو صلى الله عليه وسلم يوحى إليه من عند الله؟ فإذا قلنا: إنه ينسى، فقد ينسى ما يوحى إليه، وهذا طعن في الرسالة، فقالوا: الجواب بتلك الرواية الثالثة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم:(أنا لا أنسى ولكن أنُسى) يعني: رغماً عني، ولأي شيء ينسى مع أن النسيان نقص؟ قال:(لأسن) وأحسن من تكلم على هذه المسألة هو القاضي عياض في كتاب الشفاء، فمن أراد التوسع في هذا الموضوع فليرجع إليه.
والخلاصة: أن بعض العلماء قال: يكون منه صلى الله عليه وسلم النسيان في أمور الدنيا؛ أكل أو لم يأكل، أعطى فلاناً أو لم يعطه، ذهب إلى فلان أو لم يذهب، فهذه أمور عادية تجري على سنن البشر، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك تجري عليه قوانين البشر، قالوا: وأما لو أطلقنا ذلك في العبادات فلا؛ لأنه إذا نسي في العبادة فلا يقر على النسيان، بل ينبه، ولكن لماذا ينسى؟ قالوا: ليسن، وإذا تتبعنا قضايا وقعت بالفعل نجد أن النسيان الذي يقع على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من أجل أن يبين السنة، فقد يكون واجباً عليه؛ لأنه إذا لم يقع هذا الفعل أو لم تحدث هذه الصورة منه صلى الله عليه وسلم لم يبين الحكم فيها، ثم إذا وقعت بعد موته فماذا نفعل فيها؟ فقالوا: من تمام التبليغ أن يقع عليه طوارئ الأحداث والمستجدات حتى يبين للناس ماذا يعملون؟ ولهذا نظائر كثيرة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}[البقرة:١٠٦] يعني: ننسيك إياها، وفي الآية الأخرى قال:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}[الأعلى:٦-٧] إذاً: قد يشاء الله أن ينسيه، سواء مما أوحى إليه أو ما كان من الأعمال ليترتب عليه بيان الحكم، وقد وقع له صلى الله عليه وسلم في هذا المجال وفي غيره ما لم يقع لغيره لبيان التشريع.