[إمامة الأعرابي بالمهاجر]
قال: (ولا أعرابي مهاجراً) الأعرابي: واحد الأعراب، و (الأعراب) مرادف البادية والبوادي، والبدوي: هو من تبدى في الخلاء، والأعراب يقابلهم الحضر، فإذا كان شخص أعرابياً -أي: يعيش مع الأعراب في الخلاء بعيداً عن المدن- وحياته حياة الأعراب مع الإبل والغنم في المرعى، وعلى تلك الحياة المعروفة.
فإذا كان هناك حضري وأعرابي فهل يؤم الأعرابي الحضري؟ الحديث هنا -وإن كان سنده ضعيف جداً معناه العام يؤخذ منه أن الغالب على حالة الأعراب أنهم غير فقهاء في الدين، قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:٩٧] ، فالغالب على الأعراب عدم الفقه في الدين، وعدم معرفة أحكام الصلاة، والغالب على المدني الذي يعيش في المدن أن يفهم ويحفظ، وإن لم يفهم ويحفظ فسيرى وينظر ويأخذ من الناس.
فالحضري أسرع إلى فقه الإسلام، وأسرع إلى معرفة أحكام الصلاة من الأعرابي.
وهناك قصة تعطي صورة عن بعض الأعراب، وتحمل طلبة العلم ثقل مسئولية تعليم الناس، خاصة الأعراب والبوادي، وأعجب كل العجب -ولا ينتهي العجب- من أولئك الأشخاص الذين يتبعون بعض الجماعات، ويسافرون خارج بلادهم، ويسافرون مئات الأميال، ويقولون: ندعو الناس إلى الله وبجوارهم أهلهم وبنوا جلدتهم -وقد يكونون من أقرب الناس إليهم نسباً- في البادية يجهلون أحكام الصلاة.
فكيف نذهب إلى الأقطار النائية ونتغرب ونترك أبناءنا وأهلينا وأموالنا، ونذهب باسم الدعوة إلى الله، ونترك من خلفنا أناساً من بني جلدتنا يجهلون أحكام دينهم؟! وفي مرة كنا في الرياض في أحد النوادي، وكان هناك برنامج سؤال وجواب، وكان هناك تحفز لتعلم اللغة الإنجليزية في المعهد الديني، فقال صاحب البرنامج: إن هذا التعلم له مجال آخر، وإذا فرض في الدراسة في المعاهد الدينية سيقوم على حساب الدين؛ لأن اللغة الإنجليزية لا تكفيها حصة ولا حصتان ولا أربع في الأسبوع، فنحن ندرس اللغة العربية في أربع حصص في الأسبوع، -مع أننا ننطق بها- ولا نجيدها، فإذا ما أخذنا الإنجليزية بجانب الفقه والتوحيد والحديث والتفسير ستزاحمها في الوقت، وتزاحمها في المذاكرة، ويضعف الطالب في تحصيل العلوم الدينية، وليكن ذلك في العطلة، ويكون الطالب مخيراً، فقالوا: نريد أن نتعلم اللغة لندعو بها غير المسلمين.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى علينا وعليه حاضراً، فقدم توجيهات رحمة الله تعالى علينا وعليه.
ومن أحسن ما قدم تعليماً للأساتذة لا للطلاب أن قال: وقد ألقى شخص قصيدة يهجو فيها حالقي اللحى -ليس هذا بأسلوب حسن في الدعوة إلى الله، هذا تشهير وليس دعوة، إنما الدعوة تكون سراً، وتكون بالمعروف، لا جهراً، فكان عليه أن يأتي إلى الأشخاص المعنيين، وأن يخاطبهم فيما بينه وبينهم.
فتعلم الأساتذة كيف يدعون إلى الله غيرهم، ثم قال: سمعنا بأن بعض الطلاب يريدون أن يتعلموا الإنجليزية من أجل الدعوة إلى الله بهذه اللغة خارج البلاد، وهذا أمر عجيب، فهل اكتفينا بتعليم أنفسنا ومن ينطق بلغتنا؟ وقال: هذه البوادي، وهؤلاء الأعراب، وهذه الدويلات من حولنا هل عممنا الدعوة فيها وانتهينا من تعليم أهلها دين الإسلام والعقيدة والفقه، حتى ننتقل إلى من لم ينطق باللغة العربية لنعلمه؟! ونحن الآن نقول: إن من الأعراب من هو في حاجة إلى تعليم سورة الفاتحة، وقد حدث أن كنا في الأحساء، فدعانا إبراهيم المهنا -رحمة الله تعالى علينا وعليه- لشرب الشاي بعد العصر في بستانه، ثم صلينا المغرب في مسجده، وكان المسجد على الطريق، فصلى بنا مدرس التجويد وهو قارئ متقن، وانتهينا من الصلاة، والمستعجل صلى النافلة ومضى إلى محل الضيافة، ولفت نظري مجيء أربعة من البادية، يحمل كل واحد حاجته على كتفه، فجاءوا بسرعة وبحركة سريعة، فألقوا أمتعتهم في مؤخرة المسجد، وتقدم واحد منهم يصلي بهم، ففرحت لحرص هؤلاء الأعراب على أداء الصلاة جماعة في المسجد، فقد قدموا واحداً منهم يصلي بهم، وهذا شيء حسن، فجعلت أنظر، فقرأ الفاتحة وأخل فيها إخلالاً شديداً، وبعد الفاتحة قرأ بهذا اللفظ: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون والله عابد، والله غفور رحيم) .
فهذا شيء يبكي، فأخذتني الحسرة في نفسي، وقلت: منذ كم يصلي هذا بهذه القراءة؟ وهذا إمامهم فكيف بغيره؟! فلما انتظرت فطن، وكان فطناً ذكياً جداً، ثم قام في الركعة الثانية، وقرأ الفاتحة و (قل هو الله أحد) ، أحسن من الأولى، فلما سلّم -وكان بيني وبينه حوالي عشرة أمتار- قال: أعلمني هل رأيت شيئاً مريباً؟ قلت له: إي والله لقد رأيت شيئاً مريباً.
قال: وما هو؟ قلت: اقرأ.
فجاء هو وأصحابه وجلسوا، فقلت: ماذا قرأت في الصلاة؟ قال: الحمد، قلت: اقرأها، فقرأها فعدلت له بعضاً منها.
قلت: والتي بعدها، قال: الكافرون.
قلت: اقرأها، فقرأها كما قرأها في الصلاة.
قلت: على رسلك هات يدك، وعقد بأصابعه فقرأ: لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ثم قال: والله غفور.
قلت له: قف.
ليست هذه فيها، فهذه في سورة ثانية وليست في هذه، وهذه فيها: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:٦] ، قال: (والله غفور رحيم) أين؟ قلت له: في سورة أخرى.
قال: أعطنيها.
فقرأت عليه سورة الكافرون.
قال: أعدها فرددتها عليه مرة أخرى فقال: خذها.
فقرأها كما سمعها، قال: أعطنا سورة أخرى.
فقرأت عليه: (قل هو الله أحد) ، فقال: هي عندي قلت: اقرأها.
فقرأها، فقلت له: خذها، فأعدتها عليه، وأعادها هو مرة أخرى، قال: أعطني سورة أخرى ثم فأعطيته من قصار السور، فقال: أعدها.
فأعدتها عليه، فأخذها كما سمعها، فقلت: واحدة.
قال: لا يكفيني قلت: صدقت، إذا رجعت إلى بلدكم فابحث عن إمامكم أو قارئكم، واجعله يقرأ عليك وتسمع منه ويعلمك.
فإذا كان هذا يوجد في أطراف المدن فما بالك بمن لا يأتي المدن! وقد سمعنا في (جبل رضوة) ما هو أكثر من ذلك.
فالأعراب في حاجة إلى من يعلمهم الدين، فإذا كان في الناس شباب متحمس، وعنده استطاعة، ومستعد أن يذهب ليعلم ويدعو إلى الله فهذا أمر طيب، وليبدأ بأولئك الذين هم أولى بهذه الدعوة من غيرهم؛ لأن جارك أولى بك.
فقوله: (لا يؤمن أعرابي مهاجراً -أو حضرياً كما في بعض الروايات-) ؛ لأن الغالب على المهاجر -وقد هاجر إلى لله ورسوله- الفقه في دينه، وهكذا الحضري الغالب عليه أنه يفقه دينه أكثر من الأعرابي.
قال: (ولا فاجر مؤمناً) ، أي: يؤم فاجر مؤمناً وقابل الفاجر بالمؤمن، ولم يقابله بالمسلم؛ لأن الفاجر مسلم من عموم المسلمين استسلم لأمر الله، ولكنه التزم بالأعمال الظاهرة، وتكاليف الإسلام كلها أعمال ظاهرة، فالنطق بالشهادتين وإقامة الصلاة وإخراج الزكاة والصوم، ورحلة الحج، كل هذه أعمال ظاهرة يراها الناس، أما الإيمان فهو بين العبد وربه؛ لأنه اعتقاد في القلب.
فالحديث يقابل بين الفاجر والمؤمن، وبإجماع المسلمين أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، والمراتب ثلاث، كما في الحديث: (أخبرني عن الإسلام -أخبرني عن الإيمان- أخبرني عن الإحسان) ، فالإيمان درجة وسط بين الإسلام الذي هو أعمال ظاهرة، وبين الإحسان الذي هو إتقان العمل فيما بين العبد وربه في جميع حالاته، كما في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .