للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم دخول الكافر إلى المسجد]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد.

الحديث) متفق عليه] .

هذا الحديث -كما يقول الشراح- له قصة، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل، -وسمي في غير هذا الحديث- وهو ثمامة بن أثال، وكان سيداً من سادات وادي بني حنيفة في نجد، فأخذ أسيراً، فجيء به فربط في سارية المسجد، وهذا هو موضع الدلالة، حيث أن ثمامة رجل مشرك أخذ أسيراً وأدخل المسجد وربط فيه، وهذا حكم من أحكام المساجد.

فلما ربط في سارية من سواري المسجد كان صلى الله عليه وسلم يأمر له بحلب سبع شياه فيشربه، ويمر عليه كل غداة ويقول: كيف بك يا ثمامة؟ فيقول -وهو في الأسر-: يا محمد! إن شئت مالاً أرضيتك، وإن مننت مننت على كريم، وإن قتلت قتلت ذا دم لأن الله قد قال في حق الأسير {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:٤] ، فالأسير إما أن يفادى بالمال، وإما أن يمنَّ عليه ويطلق سراحه بلا فداء، وإما أن يقتل، وكونه يسترق شيء آخر.

فكان يقول: إن ترد مالاً -يعني: فداءً- أرضيتك، أي: أعطيتك الذي ترضى.

وإن تمنن -أي: تطلق سراحي بدون فداء- مننت على كريم -والكريم لا تضيع عنده الصنيعة-، وإن قتلت قتلت ذا دم.

أي: فدمي لن يذهب سدى، بل ستجد من يطالب به، فهو يهدد وهو في الأسر؛ لأنه سيد من سادات قومه، فتركه على هذه الحالة ثلاثة أيام.

ثم مر عليه في اليوم الرابع فقال: أطلقوا ثمامة.

فأطلقوه، فجاء إلى بعض الحاضرين في المسجد وقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: تذهب فتغتسل، وتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد بشهادة الحق.

فذهب إلى بيرحاء -وبيرحاء كان شمالي المسجد، وكان يبعد عن باب المجيدي حوالى ثلاثين أو أربعين أو خمسين متراً، وكان بستاناً قريباً- فاغتسل في الضحى، وفي صلاة الظهر استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق.

ثم قال: يا رسول الله! أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فما ترى علي؟ قال: امض وأكمل عمرتك.

فمضى إلى مكة، فبلغ مكة خبر إسلامه، وهناك ضيقوا عليه وآذوه لأنه أسلم، فلما رجع إلى وادي بني حنيفة منع الميرة أن تأتي من هناك إلى مكة، وكان وادي بني حنيفة في ذلك التاريخ يمول الحجاز، فقد كان مخصباً ومنتجاً وذا زرع، فمنع الميرة أن تصل إلى مكة، فأحس أهل مكة بالحاجة والجوع، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! مر ثمامة أن يسمح بالميرة لمكة؛ فإن لك فيها الخالات والعمات.

فكتب إليه أن: اسمح بالميرة لمكة.

فسمح بها.

ولما غدا صلى الله عليه وسلم وقال: أطلقوا ثمامة أتي في الليلة التي أسلم في نهارها بحلب شاة -مع أنه قبل إسلامه كان يشرب حلب سبع شياة- فشرب فشبع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء، والمسلم -أو المؤمن- يشرب في معى واحد) ، وقالوا: لأنه لما أسلم قال: (باسم الله) ، وببركة (باسم الله) جعل الله في حلب الشاة الواحدة ما أشبعه نيابة عن السبع الشياه.

ويؤخذ من ذلك مواقف النبل في الرجال، أو مواقف عظماء الناس، فقد قيل له: يا ثمامة! ما دمت فكرت في الإسلام فلماذا لم تسلم من أول يوم، ومكثت في الأسر مربوطاً ثلاثة أيام؟! قال: لئلا تقولوا: أسلم خشية السيف.

أي: فلما أطلقت وصرت حراً طليقاً حينئذ أسلمت.

ونظير هذا الموقف أيضاً موقف زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو العاص بن الربيع فقد أخذ أسيراً في بدر وافتدي هو وأخوه، ثم بعد الفداء سافر بتجارة إلى الشام، وهو عائد أخذ هو وتجارته، فلما أخذ هو وتجارته استطاع أن يفلت منهم، ودخل على زينب رضي الله تعالى عنها واستجار بها فأجارته، فأطلت على الناس في صلاة الفجر وقالت: أيها الناس! إن عندي فلاناً -أي: زوجها- وقد أجرته.

فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسمعون ما أسمع -وما كان يعلم بذلك-؟ قالوا: نعم.

قال: والله ما علمت بذلك إلا كما علمتم أنتم الآن، وإنا قد أجرنا من أجرت لأنه قد جاء في الحديث: (يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أحدهم) .

ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تعيدوا عليه تجارته وتطلقوا سراحه فأعيدوا وأطلقوا سراحه، فأعادوا إليه تجارته وأطلقوا سراحه، فذهب إلى مكة -والتجارة التي كانت معه عبارة عن مضاربة لأهل مكة، فأعطيت له الأموال ليتاجر بها- فلما وصل ووزع الأموال على أصحابها وبرئت ذمته قال: يا أهل مكة! أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: ولماذا لم تعلن ذلك وأنت في المدينة؟ قال: أخشى أنكم إن سمعتم بإسلامي تقولون: أسلم ليذهب بأموالنا، ولما جئت بأموالكم وأعطيت الحقوق لأهلها، ولم يبق لأحد عندي شيء أسلمت بدون أي دافع آخر.