للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تطهير المساجد وتطييبها]

ذكر نعيم المجمر يستوقفنا عند العناية بالمساجد وأنها تطيب، وجاء في الحديث: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور -كما في رواية عائشة رضي الله تعالى عنها- وأن تطيب) ، وجاء القرآن الكريم في قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦] ، ترفع حساً ومعنى: حساً بالبناء، ومعنىً بالتكريم والحفاظ والصيانة، وإبعاد ما لا يليق ببيوت الله، وجاء في الحديث: (عرضت علي أعمال أمتي؛ حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، والنصوص في هذا كثيرة، وأعظم من هذا كله ما جاء في كتاب الله من عناية المولى سبحانه بالبيت الحرام؛ بما عهد به إلى الخليل وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذا الباب، فقال سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:١٢٥] ، حيث أن عباد الله يأمون بيوت الله لعبادة الله؛ فيجب أن تتوافر لهم عوامل الراحة والطمأنينة، وأن تنزه المساجد عن كل ما يشوش على المصلي، (طهرا) : حساً ومعنىً من الأوثان ومن غير ذلك مما يغاير معتقد المسلمين، ويكدر خاطرهم.

وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت فهمس إليها: يا أمة الله! لو جلست في بيتك لا تؤذي الناس، فانصرفت حالاً ولم تكمل شوطها، وبعد أن توفي عمر رضي الله تعالى عنه أتاها آتٍ فقال: اخرجي! إن الذي كان قد منعك قد مات.

فقالت -وتعطي العالم درساً في السمع والطاعة وحقيقة الامتثال-: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً.

هكذا الأمة تحترم الكلمة، وتحترم العلم والعلماء، وتوقرهم في الحياة والممات.

وقد سمعت من ينقل عن الشافعي رحمه الله أنه حينما دخل بغداد إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله قالوا: إنه صلى في الأعظمية، أي: محلة الإمام الأعظم، وهي نسبية أي: بالنسبة للأئمة المذهب الحنفي: محمد وزفر وأبو يوسف وأبو حنيفة، يقولون: إنه صلى الصبح ولم يقنت، فقالوا: لم تركت القنوت في الصبح وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لـ أبي حنيفة رحمه الله، أو احتراماً لصاحب هذا القبر، وهذه آداب فوق المستوى، وهكذا ينبغي احترام الرأي، واحترام الكلمة والعلم، وتوقير العلماء.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في عدم إيذاء الناس والملائكة: (من أكل من هذه الشجرة -البصل أو الثوم- فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) ، وفرع العلماء على هذا: كل ذي رائحة مؤذية مطلقاً، وعلماء العصر الحاضر يمثلون ذلك برائحة التبغ والدخان، وبعضهم ينبه على الجوارب إذا طالت مدته، وكثر فيه العرق وعفن، وبعض الفقهاء يقول: صاحب الجرح الذي أنتن، وصاحب ثوب المهنة إذا كانت له رائحة، ومن هنا نجد الأمر بالاغتسال يوم الجمعة.

ويروي الشافعي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة قالت: (كان الغسل للجمعة في أول الأمر واجباً كغسل الجنابة) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان الناس في أول الأمر يلبسون الخشن من الثياب، وهم في أرض حارة، ويزاولون أعمالهم بأنفسهم؛ فيأتون وقد فاحت منهم روائح العرق، فأمرهم أن يغتسلوا، ثم لما وسع الله عليهم، وجاءتهم العلوج، وكفتهم مئونة العمل؛ صار الغسل يوم الجمعة سنة) ، وذلك نظراً للحديثين: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعني: من بلغ سنه الحلم، لا لمجرد الاحتلام؛ لأن الاحتلام موجب للغسل مطلقاً.

ثم جاء الحديث الآخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، وهكذا يحث صلى الله عليه وسلم على العناية بالمظهر والمخبر في المجتمعات العامة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، ثوب المهنة اجعله للمهنة، جزار أو حداد أو في أي عمل كان، قد يكون الثوب طاهراً، ولكن قد يؤذي الجليس أو المجاور، فلا ينبغي أن يؤذي الناس بمثل ذلك، وكما روى البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت جزء من النبوة) .

والعناية بالمساجد عناية بالمسلم وبالإسلام، وهي تعظيم لحرمات الله، فها هو نعيم كان يجمر المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار، وحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إذا غسل واغتسل أن يصيب من طيب أهله، وقد كانت امرأة تقم المسجد فمرضت، فسأل صلى الله عليه وسلم عنها فقالوا: إنها مريضة مرضاً شديداً، فقال: (إذا ماتت فآذنوني) ، فماتت ليلاً ودفنوها، ولما أصبح صلى الله عليه وسلم سأل عنها قالوا: إنها ماتت ودفناها ليلاً، فقال: (ألم آمركم أن تؤذنوني؟ قالوا: كرهنا أن نشق عليك بالليل، قال: دلوني على قبرها) ، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبرها، وصلى عليها بعد أن دفنت، لأي شيء؟ لخدمتها للمسجد.

وهكذا ينص المؤلف هنا على عمل هذا الراوي بأنه كان يجمر المسجد يوم الجمعة، ولا زالت السنة في هذا المسجد إلى اليوم، وللمجمرة في هذا المسجد النبوي ميزانية خاصة للعود، بل كانوا في أوائل الستينات يؤتى بالمجامر في صلاة التراويح وتجمر الصفوف بين كل ركعتين.

إن العناية بالمساجد باب واسع لنظافتها وصيانتها من العبث، بل بوب البخاري رحمه الله: (الغلق للمساجد) ، وساق حديث الكعبة ومفتاح الكعبة.