قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب) أخرجه مسلم] .
هنا بيان صحيح صريح في كيفية الخطبة أو الهيئة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم ويخطب، وهنا يقولون: هل خطبة الجمعة خطبتان، أم أنها خطبة واحدة مفصولة بجلسة خفيفة؟ والصحيح أنهما خطبتان كل خطبة منها مستقلة، أي: يشترط في الثانية استيفاء شروط الخطبة كما يشترط في الأولى.
وقالوا: هذا الخبر إنما هو إخبار عن فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا القائل رأى بعض الخطباء -وكان خليفة من الخلفاء- يخطب قاعداً، فنظر إليه وكلّمه وقال: كيف تخطب قاعداً؟ فمن أنبأك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قاعداً فقد كذب على رسول الله وكذب عليك! وابن مسعود رضي الله عنه لما رأى خطيباً يخطب وهو جالس قرأ الآية:{وَتَرَكُوكَ قَائِماً}[الجمعة:١١] وهذا استدلال بما وقع من القرآن الكريم يحكي حالة أداء النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة، وهو أنه كان قائماً.
وهنا ناحية أخرى، وهي أن المشهور عند الناس أن الخطبة تحتاج إلى شيء من إيقاظ الضمير أو النفس، أو التأكيد على الموضوع الذي يتناوله الخطيب، فيحتاج إلى أهبة، ومن هنا كان عندهم أن الخطيب يكون على نشز من الأرض مرتفع؛ لأن ذلك أدعى لانتشار الصوت، أو على راحلة، وأيضاً يعتمد إما على عصا وإما على قوس.
فالخطبة لا تتأتى مع الجلوس؛ لأن القاعد لا يملك حماس القائم، ولا يعطي صورة الاهتمام بالموضوع كالذي يقوم يتكلم وهو قائم.
ومن العجائب أنه زارنا أخ مسئول في بعض دول أفريقيا، فسألته عن طالب كان في الجامعة وذهب إلى هناك قائلاً: كيف حال فلان؟ فنهض قائماً، فقلت: ما بالك؟ قال: لا يحق لي أن أتكلم عن فلان وأنا جالس، بل أقوم قائماً لأتحدث عنه، فقلت في نفسي: هذه مسألة على الفطرة، فالقيام في الخطبة دليلٌ على الاهتمام بالموضوع، ولهذا نبه هذا الرائي من رآه من الخلفاء يخطب قاعداً.
ويقولون -والله تعالى أعلم-: أول من خطب قاعداً معاوية رضي الله عنه، ويعتذرون له بثقل جسمه وكبر سنه، والله تعالى أعلم.