[الوصية وأحكامها]
قوله: (يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) أو حق يريد أن يوصي، (حق يريد) رد كتابة الوصية لإرادة الموصي، ومن هنا قال الجمهور: الوصية جائزة وليست واجبة؛ لأنه قال: (يريد أن يوصي) وإذا لم يرد أن يوصي فلا شيء عليه.
والبعض قال: الوصية واجبة، وهذا المبحث هو مبحث حكم الوصية.
الوصية تعتريها الأحكام الخمسة.
وقوله: (ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ويبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ما هو الحق الذي يريد أن يوصي به؟ قالوا: يوصي بما كان عنده من حقوق للناس ولا يعلمها الناس، ولا يعلمها إلا هو صاحب الحق فقط، كإنسان أتى إلى صديقه، أو إلى جاره وقال: يا جاري! أو يا صديقي! هذا الكيس فيه ألف ريال أمانة عندك حتى أطلبه، ولم يشهد على ذلك، فأخذ جاره أو صديقه الكيس ووضعه عنده، ولم يكتب عليه ما يعرّفه وأصبح في صندوقه مع أكياس ماله، فلو مات غداً هذا المال الذي في ذمته ما حكمه؟ ولو جاء صاحبه وطالب الأولاد فقالوا: ما أخبرنا، وما قال لنا، فهل عندك بينه؟ فقال: لا، والله! ما عندي، فأنا ائتمنه لأنه صديقي أو جاري؟ قالوا: مثل هذا تتعين الوصية في حقه؛ لأنه لا يدري هل يأتيه الموت بعد ليلة أو بعد ليلتين، أو يأتيه الموت قبل الليلة أو الليلتين، فحيث أن ذمته قد تحملت بحقٍ للآخرين وهو لا يضمن الموت فلا يحق له أن يبيت الليلة أو الليلتين إلا ووصيته مكتوبة بهذا الحق.
ومثل هذا لو كان هناك قضية بين اثنين ولم يشهدها إلا هو، وحينما يتنازع هذان الشخصان لا إثبات لهما إلا عنده، فهو لن يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد، ولكن إذا مات وتنازعا فمن الذي يثبت الحق لأحدهما؟ ليس هناك إلا هو، فيجب عليه أن يكتب: (عندي شهادة في موضوع كذا وكذا) ويدعها ورثته.
وقد تكون الوصية تارةً واجبة، كما إذا كان مديناً بدين، أو اشترى سلعة وبقي في ذمته من قيمتها شيء، ولم يعلم أولاده، وصاحب السلعة لم يوثق البيع بكتابة، فإذا خشي أن يأتيه الموت ولم يخبر الورثة بالدين الذي في ذمته، فيتعين عليه أن يوصي ويكتب ما عليه من دين، حتى إذا جاء أصحاب هذا الدين أو ذاك دفعوا إليهم دينهم.
إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة قد تكون بحكم الوجوب وقد تكون بحكم الندب، فإذا كان عنده مال وأولاده في غنى عنه، وأراد أن يجري على نفسه صدقة بعد موته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع) ، فلا يسوّف حتى يفاجئه الموت وهو لم يوص فقد تفوت عليه الصدقة ويحرم من هذا الخير.
إذاً: تندب الوصية هنا؛ لأن عمل الصدقة له بعد موته ليس للوجوب إنما هو للندب والاستحباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً لكم في أجوركم) .
وإذا كان عنده مال محدود وعنده عيال كثير وهم في حاجة إلى العشر من تركته، فذهب وأوصى بثلث ماله، فهل الورثة في حاجة إلى هذا الثلث أو هم في غنى عنه؟ الجواب: هم في حاجة إليه.
فإذا كان ورثتك هم أولى من الآخرين، فلماذا توصي بالثلث للفقراء والمساكين المشتتين في العالم، أو في بلدك، وعيالك وأولادك في حاجة إلى هذه الوصية؟! فإذا أنفقت على زوجك فلك أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك فلك بها أجر) وكذلك اللقمة التي تضعها في فيِّ ولدك أو بنتك، كما سيأتي في حديث سعد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) فدع الثلث لعيالك، وهنا الوصية تكره، ولهذا كانت المضارة في الوصية من أكبر الكبائر.
وقد جاء حديث: (إن الرجل أو المرأة يعيش أحدهما ستين سنةً يعمل الخير، فإذا جاء عند الموت ضار بوصيته -عياله في حاجة وأوصى وصية مضارة لهم- فيختم له بعمله هذا فيكون من أهل النار، والرجل والمرأة يعمل أحدهما بالشر ستين سنةً ويعدل عند الموت في وصيته فيختم له بالخير فيدخل الجنة) .
إذاً: الوصية تعتريها الأحكام الخمسة بحسب حالات الموصي وما يوصي به، ومن يُوصى إليه، والمضارة في الوصية سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله.
إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة تحتمل الأحكام الخمسة: (يريد) لأنها متعينة عليه في دين خفي، (يريد) لأنه يحب فعل الخير من بعده.
(يريد) لأنه يريد أن يفعل شيئاً مطلقاً.
أي: في جانب الخير، فتكون مباحة ومندوبة وواجبة.