وكذلك من المباحث الفقهية في هذا الحديث الشريف: تكرار العمرة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:(العمرة إلى العمرة) دونما تقييد بزمن، فأخذ الجمهور وأتباع الأئمة الأربعة ما عدا المالكية: بأن العمرة يجوز تكرارها في الشهر وفي السنة.
وبعضهم قال: لا تكرر في الشهر الواحد.
وبعضهم قال: لا تكرر قبل عشرة أيام.
وحجة أولئك: بأن من اعتمر يحلق شعره، وإذا أراد عمرة أخرى ينتظر حتى ينبت شعره ليحلقه في العمرة الثانية، إلى غير ذلك من الاستنتاجات، ويرى المالكية: بأن العمرة لا تتكرر في السنة، وإنما تكون في كل سنة مرة لمن أراد ذلك.
ووجه نظر المالكية في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر، وأتى مكة وحج واعتمر مع حجه، ولم يأت بعمرتين في سنة واحدة، وقد جاء في فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وذهب إلى حنين، وفي عودته اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرة واحدة، ولم يكرر العمرة، مع أنه كان لديه الوقت لذلك، وأجاب الجمهور: بأن فعله صلى الله عليه وسلم سنة وأسوة، ولكن تركه الفعل ليس دليلاً على عدم الجواز، فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يترك الفعل وهو يحب فعله؛ مخافة أن يفرض على الناس، أو أن يشق عليهم.
ومن هنا ترك العمرة في فتح مكة، وفي حجة الوداع، ويقال أيضاً: لقد كانت سنة ثمان سنة فتح وجهاد، وما أن فرغ من فتح مكة حتى سمع بأن هوازن قد جمعت له، فما كان إلا أن خرج إليهم، ولما انتهى منهم رجع بعمرة إلى مكة، وما كان إلا قسم الغنائم ثم العودة إلى المدينة، ولو أنه صلى الله عليه وسلم كرر العمرة في تلك السنة لشق على من كان معه، فإن معه جيشاً لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، خرج بهم من المدينة، ومعه أيضاً عدة آلاف من أهل مكة، انضموا إلى جيش المسلمين، فحينئذ لو أراد أن يعتمر لكان في ذلك مشقة على هذا العدد، وتكرار العمرة سنة ونافلة، وليس بواجب.
وعلى كل يرى الجمهور: أن تركه صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً على عدم الجواز، فهو صلى الله عليه وسلم وإن ترك الفعل فقد أتى بالقول، وجعله عاماً ولم يقل: إلا أنها في السنة مرة واحدة، ولم يقل: في كل سنة، بل جاء إقرار منه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عندما حجت مع أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تعالى عليهن، فكانت قد حاضت بسرف، وكانت مفردة، وخافت أن لا تطهر قبل أن تأتي بعمرتها، (فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعلك نفست؟ قالت: نعم، قال: لا عليكِ أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: عمرة في حجة -فأدخلت العمرة على الحج وصارت قارنة- فلما انتهوا قالت: أريد عمرة قال: يكفيكِ عمرتكِ مع حجك، قالت: لا، أيرجع صاحباتي بعمرة وحج، وأرجع أنا بعمرة مع الحج -تريد عمرة مستقلة- فقال صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: اذهب بها فاعمرها من التنعيم) فذهب وأعمرها من التنعيم، وجاءت وقضت عمرتها ورحلوا، وقد كانوا على أهبة الرحيل، والوقت ليل، ولولا صحة العمرة أكثر من مرة -وقد أتت معهم بعمرة في تلك السنة مع حجها- لما قال له وهم على سفر: اذهب وأعمرها -أي: ويدركهم في موضع كذا- فلما أجاز لها، وأعمرها وأتت بعمرتين في السنة؛ علم الجميع بأن العمرة يجوز تكرارها.
ويقول بعض العلماء: إن العمرة يجوز تكرارها إلا لأهل مكة؛ لأن بقاءهم عند البيت، وطوافهم بالبيت، أولى من أن يضيعوا وقتاً في الذهاب والإياب إلى غير ذلك.
إذاً: قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) على عمومه دون تحديد وقت لأداء العمرة، خلافاً لما جاء عن مالك رحمه الله.