قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل) أخرجه مسلم] .
هذا فيه بيان المفاضلة في النوافل، ونحن نعلم بأن صلاة الليل نافلة، والنص الكريم يقول:{وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}[الإسراء:٧٩] نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لك) وبقية المسلمين هل تكون لهم نافلة أم تطوعاً منهم؟ يقول علماء التفسير في التدقيق في هذه المسألة: إن قيام الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والنافلة بمعنى: الزيادة، لماذا كانت صلاة الليل زيادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لأنه صلوات الله وسلامه عليه قد غفر ما تقدم له من ذنبه وما تأخر، وصلاة الفريضة قد تنقص في حق الأمة، فجاء قوله:(انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فاجبروا بها فريضته) ، فريضة الأمة كأفراد من حيث هم محتملة للنقص، فإذا وقع نقص في فريضة جبر من النافلة، وقد تستغرقها، ولكن بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم هل يحتمل في فريضته نقص يحتاج إلى جبران؟ لا، إذاً: صلاته كاملة، فالتطوع الذي سيكون منه سيتوفر له كاملاً، وهل هذا يكون لغيره؟ لا، إذاً: التنصيص القرآني: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}[الإسراء:٧٩] لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تلك النافلة في جبران فريضته، بينما آحاد الأمة يحتاجونها، فقد لا تسلم تلك النافلة.
وهنا يرشدنا صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي صلاة الليل، وصلاة الليل تجمع عدة مسائل أو صفات تؤهلها وتجعلها فعلاً أفضل صلوات بعد الفريضة: أولاً: ما يلحق الإنسان فيها من مشقة؛ لأن صلاة الليل يرى كثير من العلماء أنها لا تعتبر تهجداً إلا إذا كانت بعد نوم، أما إذا كان سهران وما جاءه نوم حتى الساعة الثالثة أو الثانية والنصف بعد نصف الليل وقال: أصلي، فهو لم يتهجد بعد نوم، وما كلفته، لكن إذا كان نائماً مستغرقاً في النوم، وفي حاجة إلى هذا النوم، ويقهر نفسه ويغالب غريزته، ويجتذب نفسه من فراشه، ويتوضأ ويصلي، كان هذا عملاً فيه جهاد كبير، وهنا يصادف قيام الليل الثلث الأخير من الليل، وفيه الحديث النبوي:(إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من داع فأجيبه؟) ، في هذه اللحظات المولى سبحانه وتعالى يتودد إلى عباده، فالذي يصلي من الليل يصادف تلك اللحظات التي فيها النداء من الله سبحانه، إذاً: تصادفه من حيث الزمن والملابسات من تجلي المولى سبحانه لعباده، وتدل على شدة الرغبة في الخير، وكذلك أيضاً الناس نيام، فهذا قام من ليله، بينما الآخرون مستغرقون في نومهم، وفرق بين من ينعم في نومه وبين من ينعم بمناجاة ربه.
كان ابن عمر رضي الله عنه ينتهز نوم الناس في القيلولة فيقوم ويصلي، ويقال عنه: يحيي القيلولة؛ وإن كان قد جاء الحديث أن نومة القيلولة تعين على قيام الليل، وابن عمر رضي الله تعالى عنه له قصة ودافع في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:(نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فقد جاء أنه رأى رؤيا، حيث رأى نفسه على حافة النار، فسمع منادياً يقول:(لن تراع! لن تراع) أي: لا تخف، فنجا منها، وقبلها كان يقول في نفسه كما يعبر هو:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح التفت لأصحابه وقال: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟) ، فمن كان يرى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعبرها له، وقال صلى الله عليه وسلم:(الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وهذه النسبة جاءت كما يأتي: واحد من ستة وأربعين، قالوا: إن مدة الوحي كانت قسمين: وحي بالرؤى، ووحي بالملك، فالوحي الذي كان بالرؤى مدة وجوده صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، كان يرى الرؤيا ليلاً فتأتي صباحاً كفلق الصبح، كأنه يقرؤها من كتاب، ثم جاءه الوحي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:١] قالوا: كم كانت مدة الوحي بالملك؟ ثلاث وعشرون سنة، ثلاث عشر سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة، وستة أشهر بالنسبة للسنة كم؟ النصف، اضربها في اثنين، كل سنة نصفين، فهنا الوحي المباشر ثلاثة وعشرون في اثنين فتكون ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمدة الرؤيا بالنسبة لمدة الوحي نصف سنة من ثلاث وعشرين سنة، فتكون النسبة صحيحة.
وهكذا الرؤيا الصادقة أو الرؤيا الصالحة كثير من الناس يرى الرؤيا فيصبح يراها موجودة في الفعل، أو من الغد أو قريب من هذا الباب فيقول ابن عمر:(كنت أقول: إن من يرى رؤيا صالحة يكون عنده شفافية في روحه، ويكون عنده نور في بصيرته، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت أني على حافة النار أو جب فيه النار، فجاء ملك أو قال شخص: لن تراع لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فأخذ العلماء من هذا أن قيام الليل ينتج عنه النجاة من النار؛ لأنه رأى أنه على حافة النار، والرسول أرشده إلى ما ينجيه منها، فما كان يترك قيام الليل بعد ذلك حتى زاد قليلاً فكان يحيي القيلولة زيادة في الخير وحرصاً عليه.