قال المؤلف رحمه الله: [وعن عاصم بن عدي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .
نحن نعلم جميعاً أن الوسيلة الخاصة التي كانت للنقل هي الإبل، حتى الخيل لم تكن تصلح للأسفار؛ لأن الخيل نفسها ومداها قريب، وأما الإبل فمعها سقاؤها وخزانها في جوفها، ويمكن أن تصبر عن الماء أربعة أيام؛ لأنها تحمل ماءها في جوفها، وخالد بن الوليد لما قطع المفازة من العراق إلى الشام، أخذ بعض الإبل العجاف وعطشها ثلاثة أيام، ورواها بالماء، ثم ربط على أفواهها حتى لا تجتر، وكانوا في المفازة إذا احتاجوا الماء نحروا تلك الإبل العجاف، وأخذوا الماء الذي في جوفها وسقوا به الإبل والخيل الأخرى، يفعلون هذا لعدم وجود ماء في المفازة، ثم يأكلون لحمها، فالإبل كما يقولون:(سفينة الصحراء) فهؤلاء الحجاج كم من الإبل التي يأتون بها إلى الحج؟ كل واحد على بعير، أو كل اثنين على بعير، فضلاً عن أن تحمل بعضها الضعائن في هوادجها، فإذا حصل هذا العدد الكثير من الإبل، وكل إبل عليه هودج، فأين المساحة التي تأخذ هذا العدد كله؟ فهي تحتاج إلى حيز، ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن لا تزدحم منى بالإبل وهوادجها، قال للرعاة: خذوها واذهبوا بها بعيداً عن منازل الناس؛ وهذا لمصلحتين: الأولى: أن الإبل تجد في الخلاء مرعىً ترعاه، الثانية: أن منى يخف الزحام فيها من الإبل ومن حمولاتها، كما يعملون الآن من حجز السيارات الصغيرة لئلا تزحم الناس في منى، وحتى يخففوا كثيراً من الأزمة، إذاً: هذا تنظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- لحركة المرور، من أجل كثافة السكان، ولكن الذي يهمنا: أن هؤلاء الرعاة كانوا رعاة وكانوا محرمين، لأنهم يرمون، والذي يرمي معنى ذلك أنه حاج، إذاً: لا مانع من كون الحاج يزاول عملاً، سواءً كان رعاية الإبل، وسواءً كانت قيادة السيارة، وسواءً كانت قيادة الطائرة، أو أي عمل يزاوله فلا مانع من ذلك، وكذلك له أن يبيع ويشتري ويصنع، وإذا كان الحجاج يأتون بهذه الأعداد الهائلة من الإبل فهم أصناف شتى، فمنهم من يصنع طعامه، ومنهم من هو كسلان أو تعبان لا يقدر أن يعمل طعاماً فإذا وجد من يبيع الطعام في القافلة فسيشتري؛ لأنه لا مانع من أن يحرم للحج وأن يعمل في سفره وفي طريقه إلى الحج، قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:١٩٨] .
وإنما الخلاف فيما إذا كان إنما حج ليتجر، أو اتجر ليحج، فإذا كان اتجر ليحج أي: ليربح ويستعين بربح تجارته على مصاريف الحج فلا مانع في ذلك، وأما إذا حج من أجل أن يحصل على الربح فقط فهذه ناحية ثانية، إذاً: الرعاة هم عمال يرعون الإبل، ويقودونها وقت السفر، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا بإبلهم إلى خارج منى؛ لترعى من عشب الأرض ونباتها، ولتتسع أرض منى للحجاج.