[حكم الطيب للمحرم]
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه] .
موضوع هذا الحديث هو تطيب المحرم، وألفاظه: (كنت) يقول بعض العلماء: (كنت) تدل على التكرار، ويقول البعض في هذا الحديث: ليس فيه دلالة على التكرار؛ لأنه أحرم للحج مرة واحدة.
ولكن إن كان أحرم للحج مرة واحدة فقد أحرم للعمرة ثلاث مرات، أي: منفردات، وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والرابعة من عمراته كانت قراناً مع الحج، فلا مانع أن يكون هذا الفعل قد تكرر من عائشة رضي الله تعالى عنها.
أما أحكام الحديث فقولها: (أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه) ، أي: إذا أراد أن يحرم طيبته، أي: أنها توقع الطيب قبل أن يحرم، وهنا يبحث العلماء: هل للمحرم أن يتطيب؟ أجمع العلماء على أنه لا يتطيب ابتداءً، أي: إذا أحرم وقال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، حرم عليه أن يمس الطيب.
ولكن إذا تطيب قبل أن يحرم، أي: تطيب لإحرامه، فقال بعضهم: إن كان هذا الطيب ستبقى له رائحة فيمنع منه، كما هو مروي عن عمر وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والجمهور على أنه إذا تطيب قبل الإحرام وبقي أثر الطيب بعد الإحرام فلا مانع من ذلك، ولهذا يقولون: الإحرام مانع ابتداء لا مانع دوام، كما سيأتي في النكاح، فإن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، فهو مانع ابتداء للتزويج ولكن ليس مانع دوام؛ لأن المتزوج يحرم وتبقى الزوجية على ما هي عليه، فهو مانع ابتداء يمنع ابتداء المحرم من أن يتزوج من جديد، ويمنع المحرم أن يتطيب من جديد، ولكن لا يمنع دوام الطيب الذي وقع قبله، ولا دوام النكاح الذي وقع قبله.
ومن هنا استدلوا أيضاً بحدث عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض رواياتها: (وإني كنت أرى وبيص -والوبيص: البريق واللمعان- المسك في مفرقه صلى الله عليه وسلم) ، والمفرق هو موضع فرق شعر الرأس، وكان صلى الله عليه وسلم له شعر يصل إلى منكبيه، وكان يفرقه قسمين: قسم إلى اليمين، وقسم إلى اليسار، حتى تظهر فروة الرأس، فتقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كنت أطيب) ، ثم بعد الإحرام: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رسول الله) .
إذاًَ: هنا دوام الطيب، والذين قالوا: إن المحرم لا يتطيب بطيب يدوم، قالوا: صحيح أنها طيبته لإحرامه، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من المدينة وقد لبس ثياب الإحرام، وتطيب ولبد رأسه- فأتى إلى ذي الحليفة وبات هناك، وفي تلك الليلة التي بات فيها طاف على نسائه اللاتي معه، واغتسل عند كل واحدة، فإذا كان الأمر كذلك فيكون هذا الاغتسال المتكرر قد أزال وأذهب الطيب الذي طيبته إياه بالمدينة، ثم أصبح فاغتسل وأحرم) ، فقالوا: إن هذا الطيب الذي طيبته عائشة أذهبه الاغتسال في الليل.
وأجاب الآخرون عن ذلك بقولها: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرقه) ، وقد رأت هذا الوبيص حينما كان في الطريق وبعد أن غادر ذا الحليفة ومضى بإحرامه.
وعلى هذا يأتي نوع من التفريع: هل يصح الطيب للمحرم في ثوبه إزاراً ورداءً، وفي بدنه، وفي شعره، وفي رأسه، وتحت إبطه، وفي يديه؟ قالت المالكية: يكون الطيب في البدن وليس في الثوب، وجاءوا بالتعليلات الفقهية التي تذهب إلى الدقة، وقالوا: إن الطيب في البدن ثابت مكانه، وأما إذا كان الطيب في الرداء، فقد يطرح الرداء عنه، ثم يرجع فيلبس الرداء والطيب في الرداء فيكون لبسه الرداء وفيه الطيب بمثابة ابتداء الطيب من جديد؛ لأنه أخذ الطيب الموجود في الرداء حينما أخذه للمرة الثانية، وهذه المسألة من الدقائق التي علم حقيقتها عند الله.
وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه شم ريح طيب من رجل -سواء كان معاوية أو غيره- فقال: من طيبتك هذا؟ قال: أم حبيبة يا أمير المؤمنين! فقال: عزمت عليك لتذهبن فلتغسلن عنك هذا الطيب.
وجاء عن ابن عمر أنه قال: لأن أتلطخ بالقار وأنا محرم أهون عليَّ من أن أتلطخ بالطيب.
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نجد هذا الحديث الصحيح من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فقد تجرد في بيته وتطيب في بيته، فأهل بيته أعلم الناس بطبيعة إحرامه وما أخذ من طيب وغيره، ولقد جاء عنها في بعض الروايات أنها قالت: (طيبت رسول الله لا كطيبكم هذا) قال بعضهم: (لا كطيبكم هذا) أي: يزول بسرعة، وقال بعضهم: لا إنما قالت ذلك لتبين أن طيبكم لا يصل إلى هذا الطيب، وقد صرحت في بعض الروايات: (بأحسن طيب المسك) .
وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم قبل أن يهل له أن يتطيب ويكون الطيب في بدنه.
وإذا جئنا إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (إني أحرمت، وقلدت هديي ولبدت شعري) ، وتلبيد الشعر هو إمساكه بما يكون من أنواع الدهون أو الطيب لئلا يتشعث؛ لأن المدة من المدينة إلى عرفات إلى أن ينزلوا إلى منى طويلة، كما جاء عن ابن عباس: أنهم حينما قدموا للحج استغرقوا تسعة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة قبل عرفات، ويومين بعد عرفات، فهذه خمسة عشر يوماً، فهذه المدة إذا ترك الشعر كما هو فإنه يتخلله الهواء ويسري إليه التراب ويعلق به ما كان في الجو، فإذا كان ملبداً سلم من هذا كله.
وبماذا يلبد؟ قالوا: يلبد بالطيب: كالمسك ونحوه، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها: (بطيب ليس كطيبكم هذا) ، وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم يحق له أن يتطيب قبل أن يحرم.
بقي النصف الثاني من الحديث وهو قولها: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ، الجمهور على أن الإحلال من الإحرام قسمان: الأول: التحلل الأصغر.
الثاني: التحلل الأكبر.
فالتحلل الأصغر: يحل فيه للمحرم كل شيء إلا النساء، وبعضهم يلحق بها الطيب، وهو أن يفعل اثنتين من ثلاث: رمي الجمرة، وحلق الرأس، والطواف بالبيت، فإن فعل اثنتين من هذه الثلاث أياً كانت حل له كل شيء، فيلبس الثياب، ويقلم الأظفار، ويحلق الشعر، فكل الذي كان ممنوعاً منه فإنه يحل له إلا النساء، فإذا فعل الثالثة حل له كل شيء.
فبعضهم يقول: إذا فعل اثنتين من ثلاث حل له كل شيء إلا النساء، وبعضهم يقول: إلا النساء والطيب.