ومن هنا ينبغي على المفتي أن يراعي حالة المستفتي إذا سأله عن شيء عام، فينظر إلى حالته وما يناسبه، فإذا كان يناسبه الصلاة أرشده إليها، وإذا كان يناسبه الصيام أرشده إليه، إلى غير ذلك من الأعمال، ولكن لا ينبغي أن يخرج مراعاة لحال السائل عن حدود ما شرع الله، ويغير سنة رسول الله.
وقد ذكر في تاريخ الأندلس أن ملكاً وقع على جارية له في نهار رمضان، فاستفتى بعض العلماء فقال له: لا كفارة لك في هذا الوطء إلا أن تصوم شهرين متتابعين، فقال له زملاؤه من العلماء: لم أمرته بصيام شهرين؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل الذي قال:(هلكت وأهلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أتجد رقبة تعتقها؟ قال: والله لا أملك إلا هذه، قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام! قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: والله! ما عندي ما أطعم أهلي، فقال: اجلس، فأتي بفرق من طعام فقال: أين السائل؟ خذ هذا فأطعمه أهلك) ، فالسنة -في كفارة من وطء في نهار رمضان- بدأت بعتق رقبة، ثم ثنت بصيام شهرين متتابعين، ثم ثلثت بإطعام ستين مسكيناً، وهذا المفتي لما سأله الملك قال: لا كفارة لك إلا صيام شهرين متتابعين.
فقالوا له: لماذا غايرت الترتيب الذي جاء في السنة؟ قال: هذا ملك، ولديه الكثير من الجواري والعبيد، فلو قلت له: أعتق رقبة، لكان يمكنه أن يجامع في كل يوم في نهار رمضان، ويعتق رقبة، فهو نظر إلى حالته، ووجد أنه لا يردعه إلا الصوم، لكن قالوا له: ليس هذا عليك، بل عليك أن تخبره بعتق رقبة، وهذا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا يصح الاجتهاد المخالف للسنة.
ونقول أيضاً: إن الخير في السنة، فلو كان ملكاً وأمكنه أن يعتق عن كل جماع رقبتين أو أكثر، فإنه أفضل من أن يصوم؛ لأنه -كما يقول الأصوليون- الخير المتعدي خير من الخير اللازم لصاحبه، فإذا أعتق الملك أمة وصارت حرة، فإن كل من تنجبه سيكونون أحراراً، فهو إذا أعتقها فكأنما أوجدها من العدم إلى الوجود، أي من الرق إلى الحرية، فيصير لها أحكام الأحرار، وكذلك العبد، حتى أنه يصير صالحاً للقضاء، وصالحاً للجهاد، وصالحاً للقيادة، وصالحاً للإمارة والولاية، فيكون هناك خير كثير، وكذلك الأمة تنجب لنا أحراراً، فإذا أعتق ثلاثين جارية، فإنه حرر ثلاثين رقبة، أما لو صام عشرين شهراً فما الذي سيعود على الناس من صومه؟ لن يعود على الناس من صومه شيء.
إذاً: لا ينبغي في مراعاة حال السائل تجاوز ما سنه الله وشرعه وسنه رسول الله.
وظن المفتي أن في ذلك المصلحة خطأ، بل المصلحة كل المصلحة في اتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأمر كما قال هذا المجتهد، لقال: صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة، ولكنه لم يقل هذا، بل قال:(أتجد رقبة؟ قال: لا أملك إلا رقبتي!) .
إذاًَ: على المفتي أن يراعي حال المستفتي حينما يكون في الأمر سعة، ويكون هناك أنواع متعددة، فيرشده إلى ما يلائمه، وما يصلح مع حاله، كما سئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال:(الصلاة في أول على وقتها) وفي الحديث الآخر أجاب إجابة أخرى، فالسؤال واحد، وتنوعت الإجابة، وليس في هذا خلاف، وليس فيه تعارض، ولكن فيه مراعاة حال السائل وما يصلح له.