[ظهور معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام في حديث الذباب]
والقسم الثاني: من المعجزات: ما ادخرها الله سبحانه وتعالى للأمة على مدى الزمن، فتكشفها الأيام تكشفها المعامل والمختبرات، وتظهر للناس معجزات جديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هي إحدى تلك المعجزات تظهر في هذا القرن، فقد استنكر بعض الناس قديماً وحديثاً هذا الأمر، وقالوا: كيف يحصل للذبابة أن تحمل عنصرين متضادين داء ودواء؟! وكيف تميز الجناح الذي فيه الداء وتقدمه؟! فاستبعدت عقولهم إمكان وجود هذا، وعقولهم قاصرة، أما رأوا النحلة يخرج من فمها شفاء للناس، ومؤخرها فيه سم؟ فإن لدغة سبع نحلات كلدغة العقرب، وهي حشرة واحدة، فالله خلقها، وألهمها التناسل، وألهمها المبيت، وألهمها الطيران، وألهمها كل شيء، قال الله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:٣] ، قدر الأشياء، وهدى المخلوقات إلى ما قدره لها، فالله أحسن كل شيء خلقه ثم هدى، وكل مخلوق أحسن خلقه ثم هداه لما خلقه إليه، والأمثلة كثيرة جداً: فمن الذي علم النحلة أن تبني بيتها السداسي بما يعجز عن مثله المهندسون؟ ومن علمها أن تستخلص من الزهور عسلاً؟ إنه الله الحكيم القدير.
وقد رد بعض الناس قديماً حديث الذباب؛ لأنه لا يستوعب أن فيه داءً ودواءً، ثم استبعد عقلاً أن الذباب يميز بين الجناح الذي فيه الداء فيقدمه وبين الذي فيه الداء فيؤخره، ولما أدخلوا العقول غير العاقلة أفسدوا الحديث، ولو كانت عقولهم نيرة كاملة لما استبعدت ولما استنكرت، وقد كذب الكفار بالإسراء والمعراج وقالوا: كيف يروح ويجيء في ليلة ونحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل شهراً؟! فمقاييس العقل لا تدخل في المعجزات ولا في الآيات الكونية التي خلقها الله سبحانه وتعالى.
والآن لما تقدمت الأبحاث ووسائلها، والاكتشافات وآلاتها، حصلت هناك دوافع لإجراء بحوثات حول هذا الذباب، لا عن طريق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا يعلمون به، ولكن على مناهجهم العلمية، وأقدم بحث عن الذباب اطلعت عليه في سنة (١٨٧١م) ، فقد بحث هذا الموضوع مجموعة من الأطباء، اثنان من إيطاليا، واثنان من ألمانيا، وواحد من بلجيكا، ونشرت بحثهم مجلات عديدة، منها: المجلة الطبية البريطانية، وغيرها، ونقلته مجلة الأزهر، ومجلة التمدن الإسلامي، ومجلة حضارة الإسلام السورية، ومجلات كثيرة جداً، وآخر ما وصل إلينا بحث طبي في جامعة الملك سعود بالرياض، فقد أجريت تحاليل على هذه الحشرة عملياً، واطلع عليها أخونا الشيخ عبد المجيد الزنداني، ورأى بعينيه ما فيه من داء، وما فيه من دواء، والصنعاني شارح هذا الكتاب يقول: إن سمّية الذباب يذهبها الدواء الذي فيه، ويقول العلماء: إن لسعة النحل والزنبور والعقرب إذا حكت بالذباب زال سمها، وهذا يدل على وجود الدواء في الذباب، فلو أنك حككت محل لدغة الزنبور أو العقرب بمجموعة من الذباب لكنت قد عالجته بالدواء الذي فيه، وذهبت آثارها، إذاً: هذه المسألة معروفة من قبل، وزاد من صحتها التجارب العملية.
وأذكر أن طبيباً مفتشاً في أعمال كيميائية في وزارة الأوقاف بمصر جاء ليحج، وكنا معاً، وكنا نلتقي به مدة وجوده في المدينة، وكان متطلعاً إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قدمنا رابغ جلسنا نشرب الشاي، والذباب هناك كثير، فإذا بذبابتين تسقطان في الفنجان، فلما وقع نظره عليهما غمستهما ونزعتهما ورميتهما؛ فتساءل في دهشة: ما هذا؟! فذكرت له حديث رسول الله، فقال: وهنا قال رسول الله أيضاً؟! فقلت له: نعم، فضرب كفاً على كف، وقال: هذا الحديث صحيح! قلت: أنت دكتور معامل وكيميائيات، وما يدريك أنه حديث صحيح؟! فذكر لي ظروف دراسته أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وكان مبتعثاً للدراسة في ألمانيا، ولما قامت الحرب توقفت وسائل الاتصال، ويذكر لي من عصاميته أنه انقطعت عنه المصاريف والمواصلات، فكان هو وثلاثة من زملائه يعملون في المساء في المطابخ، يغسلون الصحون، هو طبيب مبتعث يدرس كيمياء، فإذا به من أجل أن يكمل دراسته يعمل مساءً في مطبخ لينال أجراً يعيش به ويكمل دراسته! وما انتهت الحرب إلا وقد انتهى وأخذ شهادته.
فيقول: لقد اطلع على بحث حول هذا الموضوع، وهو أن معركة العلمين كثر فيها المصابون، فكان المسئولون يبادرون بحمل الجرحى من الضباط إلى المستشفى، ويبقى الجرحى من الجنود بأرض المعركة، حتى إذا فرغوا من نقل الضباط أخذوا الجنود، واجتمع الجميع في المستشفيات، واتحد العلاج للجميع، فكانت جراح الأفراد أسرع شفاءً من جراح الضباط، فلفت هذا النظر، وقالوا: لعل التربة التي أصيبوا فيها وجاءهم من غبارها فيها مادة تساعد على سرعة برء جراحهم؛ لأنهم مكثوا على التربة مدة أطول من الضباط، فحللوا تلك التربة فلم يجدوا شيئاً، فقالوا: لعله الذباب الذي سقط عليهم مدة طويلة، فقالوا: الذباب يحمل الميكروبات، فكيف يؤثر عليهم؟! ومن باب البحث العلمي أخذوا الذباب وحللوه، فوجدوا فيه هذه المادة، ثم توالت الأبحاث.
والآن يعرف طبياً في العالم -كما قال طبيب ألماني- أن الذبابة تحمل في ثلثها الأخير أنبوباً مستطيلاً يمتلئ بمادة (بكتريوج) أو (بكترياج) ، وترجمته: (مبيد البكتيريا) ، وهذا الأنبوب المستطيل مثل حلمة الثدي، يمتلئ من هذه المادة في جسم الذبابة، فإذا امتلأ وضغط عليها انفجرت فينتثر حولها، فيقيها من جراثيم الميكروبات التي في القمائم، والقاذورات التي تسقط عليها، ولا تضرها تلك الجراثيم، فلما بحثوا موضوع الغمس، قال الأطباء المسلمون عن الغمس: هي إذا امتلأت بطبيعتها تنفجر، لكن إذا سقطت وانغمس الأنبوب إلى نصفه لم يأت موجب لانفجارها، فإذا غمست في السائل فإن السائل يحدث ضغطاً عليها فيفجرها، كما تضغط على جلدة قلم الحبر فيخرج الحبر، فكذلك يضغط السائل على الأنبوب فينفجر، فيخرج ما فيها من الدواء ليقتل ذلك الداء.
وقال لي الطبيب في ذلك المجلس: إذا وقع الذباب فيجب أن تغمسه، سواء أردت أن تشرب أو لم ترد أن تشرب، فقلت له: إذا كنت لا أريد أن أشرب فلماذا أغمسه؟ قال: لأنه عندما سقط قدم الجناح الذي فيه الداء، فأصبح السائل ملوثاً، فإذا أرقت السائل قبل غمسه بقي الكأس ملوثاً من أثر السائل، أما إذا غمسته فإن السائل يتطهر، فإذا أرقت السائل صار جرم الكأس معقماً، ثم لك أن تشرب في ذلك الكأس.