هذا الحديث يحمل الصائم على أن يكون مسلماً مثالياً؛ ولهذا يقول العلماء: هل النهي عن قول الزور به خاص برمضان فقط؟ يعني: هل بعد رمضان يكون كيفما شاء، ويعمل كيفما شاء؟ لا، هو محرم قبل أن يأتي رمضان، ومحرم في رمضان وفي غير رمضان، ولكن حرمته في رمضان أشد.
ويقول ابن عبد البر في "الاستذكار": قال العلماء: الكبر محرم في كل وقت، والزنا محرم في كل وقت، لكن جاءت شدة تحريم في أوصاف مناسبة كحديث:(إن الله سبحانه وتعالى يبغض الفقير المتكبر) ، وفي الحديث القدسي:(الكبرياء ردائي) ، فأي إنسان فقير أو غني لا يجوز له أن يتكبر، لكن يكون فقيراً ومتكبراً! لو تكبر إنسان غني معافى فإن الله تعالى يقول:{كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:٦-٧] ، فالجبلة والغريزة حملته على ذلك، لكن الفقير الذي لا يجد شيئاً ما الدافع له على الكبر إلا خبث النفس.
ومثل ذلك:(وشيبة زان) ، فالشاب إذا زنى فلديه دوافع، وغره الشيطان، مع أنه لا عذر في محرم، لكن عجوز شائب بالكاد يمشي على عصاتين ويذهب يزني أيضاً! هذا منه أكثر قبحاً.
فكذلك قول الزور والعمل بالزور طيلة العام محرم، لكن إذا دخل رمضان فيجب أن يكون أطهر منه في غير رمضان، فإذا كان مرتكباً للزور في غير رمضان فيجب أن يستحي في رمضان ويتركه، وإذا لم يكن مرتكباً له في غير رمضان فمن باب أولى أن يحافظ على صومه، وأن يبتعد كل البعد عن قول الزور والعمل به.
وإذا أخذنا في الجملة بهذا، صار المجتمع الإسلامي في رمضان مجتمع حق، ومجتمع صدق، لا زور فيه، أفراده كلهم على الصدق، أفراده كلهم صادقون، وأفراده كلهم عفيفون، وأفراده كلهم كرام بررة، بعيدون عن الهزل، بعيدون عن المزاح، بعيدون عن الزور، كيف نتصور هذا المجتمع؟! أعتقد أنه يكون مجتمعاً مثالياً وفوق المثالية؛ لأنه تخلق بأخلاق الإسلام.
ويمكن أن نقول أيضاً: من معطيات الصوم تربية النفس على مكارم الأخلاق، وكل ركن في الإسلام نجد له معطيات أخلاقية، ففي الصوم في أول تشريعه في كتاب الله قال سبحانه:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:١٨٣] ، وهنا: ترك الزور قولاً وفعلاً.
إذاً: سيصبح الصائم -كما قلنا- النموذج المثالي.
وإذا جئنا إلى الصلاة نجد لها أيضاً عطاء وأثراً {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:٤٥] ، وإذا جئنا إلى الزكاة نجد لها عطاءً مزدوجاً {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}[التوبة:١٠٣] ، وإذا جئنا إلى الحج فكذلك الحال، وعلى كل فعطاء الصيام في الناحية النفسية وفي سلوك الإنسان أخلاقياً؛ عطاءً عظيماً.