[ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد]
موضوع هذين الحديثين أن المحرم لا يقتل الصيد، ولا يأكل لحم صيد صِيد لأجله، ولكن القضية في التشريع الإسلامي أوسع بكثير من هذه الكلمة والنصف، فإن الله سبحانه وتعالى قد امتحن المسلمين بقضية الصيد، وامتحن قبلهم بني إسرائيل بقضية الصيد، فكيف كان نوع الامتحانين؟ وكيف كانت النتيجة؟ قال الله تعالى عن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:١٦٣] فذكر حال هذه القرية وما فعلت وما حل بها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:٦٥] ، فبنو إسرائيل قالوا: لا نعمل في يوم السبت، وكانوا يقولون بأن يوم السبت هو اليوم الأسبوعي، وأنه خير من يوم الجمعة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمم اختلفت في يوم الجمعة، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة، فقال بنو إسرائيل: إن يوم السبت فيه السبوت، قالوا: إن الله خلق الكائنات فبدأ من يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وسبت في يوم السبت فلم يخلق شيئاً، فقالوا: ففي يوم السبت لا نعمل شيئاً، فأخذهم الله بادعائهم، وامتحنهم الله بالحيتان في يوم السبت الذي أخذوا على أنفسهم أنهم لا يعملون فيه شيئاً، ففي يوم السبت كانت تأتيهم الحيتان على سطح البحر، فما استطاعوا أن يصبروا، فأتوا بالشباك وألقوها يوم الجمعة وربطوها وذهبوا وناموا في بيوتهم، ويوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق فيها من الحيتان يوم السبت، وقالوا: نحن لم نفعل شيئاً، فقد كنا يوم السبت في بيوتنا وما فعلنا شيئاً، فكان ما كان، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:٦٥] .
ثم جاءت هذه الأمة وامتحنها الله بالصيد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:٩٤] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:٩٥] ، فمنعهم من قتل الصيد ثم قال: سأبتليكم بالصيد وأنتم حرم، فجاء منع الصيد، فخرجوا في عمرة القضية، فأرسل الله الطيور تقع على أسنة الرماح، وتقع على أعواد الركاب أمام الإنسان، وجاءت الغزلان وصيد البر تتخلل بين أرجل الخيل والإبل كأنها غنم تمشي معهم، وهذا شيء يسيل له اللعاب وخاصة عند العرب، فإن الصيد من ألذ ما يكون لهم وإن لم يأكلوه، فلم تمتد يد إنسان منهم لا على طائر فوق رمحه ولا على غزال بين قدم فرسه، وكفوا أيديهم فعلاً؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم مر على ظبي عاكف في ظل شجرة مصوب بسهم إنسان عادي كان قد رماه فجاء ونام عند الشجرة، فأوقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين يحرسه لئلا يهيجه أحد؛ لأنه مصوب مجروح، ومروا في هذا الامتحان بنجاح، فبنو إسرائيل امتحنوا بالصيد ففشلوا، والأمة الإسلامية امتحنت بالصيد فنجحت، وهذا الابتلاء بالطعام أشد ما يكون على الأمم.
وكذلك طالوت لما فصل بالجنود قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:٢٤٩] فابتلاهم الله بالماء، يقول ابن كثير: كانوا في شدة الحر {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:٢٤٩] ، ولم يمنعهم من الشرب مرة واحدة، ولكن من يغترف بيده فلا بأس.
وحينما تبتلى الأمم وتمتحن بمن يحاربهم في أرزاقهم وفي حياتهم وفي طعامهم، ويتحكم في موادهم الغذائية ويتاجر بها كيف شاء، فهي محاربة وبلاء شديد، وأشد ما يكون ابتلاء على الأفراد، وكذلك يكون الابتلاء بإخراجهم من ديارهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء:٦٦] ، فجعل الإخراج كالقتل سواء، فقد ابتليت الأمم وامتحنت، ولتمام هذه القضية بالذات امتحن بنو إسرائيل في مادة أخرى امتحنت فيها الأمة المحمدية، فسقطت تلك ونجحت هذه.
كذلك قضية القتال لما قال لهم نبي الله موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:٢١-٢٢] .
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ، قالوا كلمة يستحيا من التلفظ بها، ونفس المادة والدرس امتحنت به هذه الأمة في غزوة بدر.
فقد خرج صلى الله عليه وسلم ليأخذ عير أبي سفيان، وقال: (إن هذه عير قريش، نخرج إليها لعل الله ينفلكموها) فأرادوا أن يجمعوا جيشاً يخرج معه فقال: من كان ظهره حاضراً فليركب، وخرج في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وحينما مشى وقبل أن يصل إلى بدر جاءته عيونه بأن العير فاتتهم وأقبل النفير، وأصبحوا بين أمرين: إما أن يرجعوا ولا يقابلون النفير، وأما أن يجازفوا بلقاء النفير.
وقد علم صلى الله عليه وسلم أن القوم ما بين التسعمائة والألف، وذلك عن طريق الإحصاء لما أخذوا الغلام ليلاً وسألوه عن عدد القوم، فقال: لا أدري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم ينحرون في اليوم؟ قال: يوماً تسعة ويوماً عشرة من الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف) ، وهذه مهمة القائد اليقظ، يجب أن يعرف عدد عدوه وآلاته ومنهجه في القتال، فعلم عدد المشركين وما معه صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، وهنا احتاج أن يشاور أصحابه، فإنه قد خرج لأخذ العير، وجاء النفير، وقد كان العهد بينه وبين الأنصار -وهم أكثر الموجودين- عند بيعة العقبة أن يحموه إذا خرج إليهم مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم، وهذه الحالة لم يكتمها عن القوم؛ لأن الجهاد في الإسلام مشورة ومشاركة، والفرد في الجيش الإسلامي كالقائد يشعر بمسئولية المعركة؛ لأن الكل جند في سبيل الله، فشاورهم وقال: يا أيها الناس! ذهبت العير وجاء النفير، فماذا نفعل؟ فقال البعض: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للنفير بل خرجنا للعير، ومعنى هذا: أن نرجع، وقال آخرون: لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر، فلتمض إلى ما أراد الله، وتكلم المقداد وعمر وأبو بكر، فيثني عليهم خيراً ويقول: (أشيروا علي أيها الناس) حتى قال قائلهم: يا رسول الله! والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وقال آخر: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وبعد هذا الكلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم سعد بن عبادة وقيل: سعد بن معاذ، فكلاهما سيد الأوس والخزرج، فقال: لكأنك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟! -لأن الذين تكلموا من قبل هم من المهاجرين - فقال: نعم، أريدكم -أي: لأن العهد بيني وبينكم في بيوتكم ولكنكم الآن خارج منازلكم، ولكم أن تقولوا: ليست لك علينا نصرة لأننا خرجنا عن بيوتنا، ومنعتنا من أن نأتي بالباقي من العوالي، ومنعت الآخرين أن يأتوا، فلهم أن يقولوا هذا، وهذا لم يحصل تصريحاً ولكن يفهم من المقام، فقال: (والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك بعض أصحابنا، ووالله ما نحن لك أشد حباً منهم، ووالله لو علموا أنك تلقى قتالاً ما تخلف واحد منهم، والله يا رسول الله! لوددنا أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر عند اللقاء.
ثم قال: امض لما أمرك الله يا رسول الله!) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلل وجهه وقال: (أبشروا، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان) ، وأخذ يعدد مصارع صناديد قريش الذين سيصرعون غداً في يوم بدر.
ويهمنا من هذه المقارنة أن بني إسرائيل قالوا: اذهب أنت وربك، وهذه الأمة قالت: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ولهذا جاء القرآن الكريم بالشهادة الإلهية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠] ، وليست مسألة عاطفية ولا مسألة ابتدائية، بل إنها مؤسسة على سوابق، فقد نجحوا في امتحان الأكل والشرب في الصيد، ونجحوا في امتحان القتال واتصفوا بما وصفهم الله به ونفاه عن بني إسرائيل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:١١٠] ، وقال عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٨-٧٩] ، فالأمور التي عرضت على بني إسرائيل فأخفقت فيها: الصيد والقتال والأمر بالمعروف، وهذه الأمة نجحت في هذه الثلاث.