[منزلة هذا الحديث عند العلماء]
وهذا الحديث الذي بدأ به المصنف في هذا الباب يعتبر من جوامع الكلم، ومن أمهات الأحاديث النبوية الشريفة، قال عنه ابن عبد البر: إنه أعظم حديث جاء في الحث على عمل الخير، والمتأمل لهذا الحديث في أسلوبه، وفي موضوعه يجد أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على أسبابها، ومن نظر في موضوعه يجده قد شمل الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة.
(سبعة يظلهم الله) : هذا اللفظ المتفق عليه، أما بالنسبة إلى العدد فإنه مما قد أُلِّفَ فيه، وقد كتب فيه السخاوي والسيوطي رحمهما الله، واطلعنا على رسالة بعنوان: مُنِيْلُ البَشِّ لمن يظلهم الله في ظل العرش، للشيخ مائل عينين وهو متأخر.
ويقولون: إن السبعة هي نهاية العدد، وما بعدها مكرر لها أو لأجزائها، وعني شراح هذا الحديث بكل من جاء فيه نصٌ بأنه ممن يظلهم الله تحت ظله، حتى أوصلوها إلى سبعين صنفاً، ولكن قال المناوي: الزائد عن السبعة المتفق عليها إما داخلة تحت هذه الأصناف السبعة، وإما أن أسانيدها لا تنهض للاحتجاج بها.
أيها الإخوة! هذا الحديث شامل لطبقات المجتمع من الشاب وبقية الأفراد إلى الإمام العادل، كما أشرنا: من القاعدة إلى القمة، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم نجدها قسمين: فقسم مختص بمادة وموضوع، وهذا غالباً في أحاديث التشريع في الحلال والحرام، وفي الواجب والمندوب.
وقسم يشمل عدة أصناف، وإذا وجدنا حديثاً يشمل أكثر من معنىً واحد فبالتأمل نجد أن هناك روابط بين تلك الموضوعات الذي انتظمت في سلك ذلك الحديث! فمن أحاديث الأحكام ما تقدم في الزكاة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، فهذا حديث مستقل بموضوع واحد، وهو تقدير النصاب في الحبوب، وحديث: (في كل أربعين شاة شاة) .
ولكن الأحاديث التي تشمل العديد من المواضيع غالباً ما تكون للتوجيه والموعظة والإرشاد، ومن أهمها هذا الحديث، وإني قد مكثت زمناً طويلاً أبحث مواضيع هذا الحديث، وأخيراً جمعت فيه رسالة، وشدني إلى الكتابة فيه قول ابن عبد البر رحمه الله: لو أن كل صنف من هذه الأصناف السبعة أفرد برسالة لكان حرياً بذلك، فجمعت لكل موضوع بحثاً مستقلاً بقدر ما في وسع الإنسان في هذا الموضوع، وحرصت أن يكون معيناً للطالب إذا أراد أن يعظ أو يذكر أو يدعو إلى فضائل الأعمال الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف، وكذلك الإنسان الذي يريد أن يتزود، أو يتثقف، أو يوسع مداركه في مدلول هذا الحديث.
هذا الحديث يشتمل على المباحث الآتية: أولاً: لفظه.
ثانياً: أسانيده.
ثالثاً: ترتيبه.
رابعاً: معاني أصنافه.
أما سنده: فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن، وذكر المؤلف هنا أنه متفق عليه، واكتفى بذلك، وهو موجودٌ أيضاً في موطأ مالك وعند أبي داود والنسائي وابن ماجة، وكل هذه الصحاح قد أوردت هذا الحديث.
وبالمقارنة بين ألفاظه في هذه المراجع نجد مغايرات يسيرة، وكذلك في ترتيبه تقديم أو تأخير، واللفظ الذي ساقه المؤلف هنا: هو لفظ البخاري رحمه الله، ولفظ مسلم يتفق معه إلا أن مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها بلفظ: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ؛ وفي رواية أخرى: (رجل تصدق بشماله -أو رجل تصدق بصدقة- فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وأسند الإنفاق للشمال بدلاً من اليمين، وأعتقد أن هذا يكون أدعى وأبلغ في معنى الإخفاء، وقد نبهنا عليه مراراً.