كأن يدعو الإمام إلى النفير العام، وأن كل من كان ذا قوةٍ على القتال فليتقدم.
فإذا تقدم رجل غني، وقال: أنا أريد سلاحاً، أعطوني سلاحاً وفرساً، ولوازم القتال، فله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه، قيل: لأول غزوة؛ لأنه بعد ذلك إن استشهد فإلى رحمة الله، وإن عاش فله من سهم الغنائم ما يغنيه.
وإن كان فقيراً لا مال عنده، فعلى ولي الأمر أن يزوده إن استطاع، وإن لم يكن عند ولي الأمر ما يزوده فالكل معذور كما قال الله:{تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}[التوبة:٩٢] ، فهو أدى ما عليه وتطوع بنفسه، ولكن لم يجد آلة القتال، ولا يمكن أن يذهب أعزل ليقابل مسلحاً، فهذا تهور وليس بقتال ولا شجاعة.
إذاً: الغازي في سبيل الله إما فقير وإما غني، فإن كان فقيراً تعين على ولي الأمر أن يزوده بما يحتاجه من نفقةٍ في السفر، ومن سلاح وملبس ومركب وكل ما يحتاجه المقاتل، وإن كان غنياً فإن تبرع من عنده فهو غازٍ بماله ونفسه، وإن لم يتبرع فهو غازٍ بنفسه دون ماله، وله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه.
وهنا يقول بعض العلماء: لو أننا قدَّرنا له في هذه الغزوة مسيرة شهر -الذهاب مع المعركة والعودة- ولكنه ذهب وقاتل ورجع في مدة عشرين يوماً، فهل نسترجع من هذا الغازي ما يقابل العشرة الأيام التي كنا قدَّرناها زيادة أم لا؟ ولو أننا قدَّرنا له في اليوم عشرة ريالات، واستغرق الشهر المقدر له، لكنه بدل أن يصرف عشرة ريالات في اليوم صرف خمسة ريالات، فرجع بنصف المبلغ الذي أعطيناه إياه، فهل يستحق الباقي الذي وفرَّه مما قدرناه له وأعطيناه إياه أم أنه لا يستحقه وعليه أن يرده إلى بيت مال المسلمين؟ الجمهور على أنه إن كان قد قتر على نفسه وضيق عليها في نفقته وما يلزمه حتى وفَّر شيئاً، فقد وفر من ملكه الذي أعطيناه إياه وامتلكه بوجهٍ شرعي، فما زاد فعليه وما نقص فله ولا يطالب بإعادة شيء؛ لأننا أعطيناه شيئاً مقطوعاً وقلنا: هذا مقابل ذاك.
فالغارم إذا كان الدين الذي ركبه غرمه لنفسه في الخير أو لغيره، فإن كان لنفسه في نفقته ونفقة عياله، إن أعطي تطوعاً دونما حساب أو تقدير فكل ما جاءه يملكه، وإن كان غارماً لدينٍ أصلح به بين فريقين وتعين الدين الذي غرمه مائة ألف مثلاً وجاءه مائتا ألفٍ أو ثلاثمائة ألف، فعليه أن يرد الباقي إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه غنيٌ في ذاته وقد أعطيناه ما لحقه للمتخاصمين، فهو لم يُعط لكي يُتصدق عليه فهو غني، لكنه تصدى للإصلاح بين الفريقين، والإصلاح احتاج إلى مائة ألف، وعلم الناس بذلك فأخذوا يعطونه من حساب الزكاة حتى زاد على الدين الذي هو مطالبٌ به، فما زاد عن الدين الذي هو مدينٌ به وملتزم به بين الفريقين يرده؛ لأنهم لم يعطوه ليتملك ويستغني بمال الزكاة.