شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، متفق عليه] .
كأنه يقول: كل ما أعلمه لا يساوي ما يعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائص الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع رسول الله، فقد كانوا يتلقون الأمر عنه مباشرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ويقول العلماء: الإنسان مهما كانت منزلته، ومهما بلغ فضله؛ فليس في غنى عن التعليم، فها هو أبو بكر الصديق رضوان الله تعالى عليه، وقد شهد له الله في كتابه، وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها) ها هو في حاجة إلى من يعلمه، ولكن من؟ رسول الله؛ لأنه لا يوجد أحد أعلم منه إلا رسول الله، فأدرك الحاجة إلى التعليم، وأدرك أنه ليس هناك أحد يعلمه إلا رسول الله، فقال: (علمني كلمات أقولهن في الصلاة) ، والرسول صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ لأنه طلب وجيه.
وكلمة: (به في صلاتي) تدل أن الدعاء في الصلاة عقب التشهد ليس مقيداً بالأربع، وليس مانعاً من غيرها، وكلمة في الصلاة مطلقة.
(قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي) .
هل حدد له موطناً في الصلاة؟ لم يحدد، يكون في سجوده، بعد الفراغ بعد التشهد، ضمن: (تخير من المسألة ما تشاء) ، الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بعموم.
أبو بكر الصديق ظلم نفسه، وعلي وحسين وعطية ومحمد وحسن عملوا ماذا؟ ظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، من أحق وأولى بهذا الدعاء أبو بكر الصديق الذي قال الله فيه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:٤٠] أو كل الحثالات الذين جاءوا من بعده؟ ولذا يقول العلماء: لا يسلم مخلوق مهما كان على وجه الأرض بعد الرسل من ظلم النفس، الرسول يقول له: (قل يا أبا بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي) ، وكيف يقع الظلم من الإنسان لنفسه؟ قالوا: أصل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فهنا العبد مكلف، ضع العبادة هذه هنا، ابتعد عن المعصية هذه هناك، فإذا لم يضع العبادة في موضعها فقد وضع الشيء في غير موضعه؛ وبذلك ظلم نفسه؛ لأنه قصر في حق نفسه، وإذا لم يتباعد عن المعصية ظلم نفسه؛ لأنه وضع نفسه في غير ما ينبغي أن يوضع فيه، ولهذا قالوا: ظلم النفس إما بتقصير فيما يجب أن يفعله، أو في اعتداء بفعل ما لا يجوز أن يفعله، فهذا ظلم نفسه بحرمانها من فعل ما أمر به، وهذا ظلم نفسه بفعل ما نهي عنه، فحملها ما لا تطيق، ولهذا يأتي إنسان ساعة الاحتضار وهو حزين أسف، لماذا؟ إن كان محسناً حزن على التقصير في الإحسان، وإن كان مسيئاً حزن على التفريط في الإساءة.
ولكن الظلم يتفاوت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] ؛ فأعلاه الشرك، وأدناه اللمم.
(ظلماً كثيراً) ليس مرة أو مرتين، بل ظلم متوالي، قد يرى العبد الصالح التفريط في المندوبات، أو الإفراط في المباحات؛ ظلماً، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء لقضاء الحاجة وهو أمر جبلي، فيخرج فيقول: (غفرانك) ، وما موجب طلب المغفرة هنا؟ وما الذنب الذي يحتاج إلى مغفرة؟ قالوا: لامتناعه من ذكر الله أثناء وجوده في الخلاء، فكأنه يرى جزءاً من عمره خلا عن ذكر الله، فيطلب مغفرة من الله لذلك، سامحني في هذه اللحظة؛ لأنها كانت لحظ نفس، وبعضهم يقول: لأن ما يحصل للإنسان في ذاك المكان تتوقف عليه حياته، ولا يقوى على شكر نعمة الإخراج، كما لا يقوى على شكر نعمة الإدخال؛ لأنه لو حبس فيه مات، فكأنه يقول: هذه أيضاً نعمة أعجز عن شكرها فغفرانك، ولكن الأول أولى، والله تعالى أعلم.
وفي بعض الروايات: (ظلمت نفسي ظلماً كبيراً) ، فنجد بعض العلماء يقول: نجمع بينهما: (ظلماً كثيراً كبيراً) ، والبعض يقول: تارة تقول: كبيراً، ولا تأتي بكثيراً، وتارة تقول: كثيراً، ولا تأتي بكبيراً؛ لأن الرسول لم ينطق بهما معاً في وقت واحد، وإنما جاء تعليمه مرة ظلماً كثيراً وحدها، أو جاء تعليمه ظلماً كبيراً وحدها، فأنت لا تجمعهما؛ لأنه لم يجمعهما، فتأتي بهذا تارة، وتأتي بذاك تارة أخرى، والله أعلم.
(ولا يغفر الذنوب إلا أنت) ، أنا رجعت إليك؛ لأن ظلمي لنفسي هو بحق التشريع الذي أمرتني أو نهيتني، فالمرجع إليك أنت.
(فاغفر لي مغفرة من عندك) .
لا بعملي، ولا باجتهادي، ولا بعباداتي، سبحان الله! أبو بكر الذي يخرج من الدنيا بكاملها لله ولرسوله، ويأتي بكل ما يملك من ماله، يخرج به مهاجراً إلى الله ورسوله، يأخذ كل ما يملك في مكة -أربعمائة درهم- ولم يترك لعياله شيئاً، ثم يأتي إلى المدينة، وبعد أن يأتي ويجتمع عنده المال، ويحض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، يأتي بكل ماله فيقال له: (ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) ، هذا أبو بكر مع عمله هذا كله الشخصية الصادقة في الرسالة، وفي صحبته له في مكة، وعرضه على القبائل، وتهيئته للهجرة، وخروجه معه إلى الغار، ومجيئه إلى المدينة، ومؤازرته، وشراء أرض المسجد الذي بني فيه، ومرافقته في كل غزواته، ولم يتخلف عنه قط ولا في غزوة من غزواته، ومع هذا كله: (واغفر لي مغفرة من عندك) ثم هذا الذي قدمته ما هو؟ قال: لا، كله من عند الله، هدايته، وتوفيقه لصحبة رسول الله، وجوده بنفسه وبماله، كل ما فعله الأصل فيه أنه من الله.
(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قيل: ولا أنت، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، قال عبد الرحمن بن عوف: (رأيت كأني مت، وكأن القيامة قامت، وقد جئت ونوقشت الحساب؛ حتى ظننت أني هالك، وما أنجاني إلا صحبتي لرسول الله) ، ابن عوف الذي يأتي يتصدق بالعير وبما تحمل في سبيل الله، ويأتيه التُجار لشرائها بربح عشرة في المائة، وهو يرفض ويقول: هناك من أعطاني ألف في المائة، قالوا: ليس هناك تاجر في المدينة حاضر يعطيك هذا، قال: الله أعطاني،،الحسنة بعشرة أمثالها، هي بما فيها في سبيل الله، ومع ذلك يقول: (نوقشت الحساب حتى ظننت أنني هالك، وما أنجاني الله إلا صحبتي لرسول الله) ، هذا فضل من الله.
ولهذا لا ينبغي أبداً أن يرى الإنسان لعمله قدراً، ويعقد رجاءه وأمله وحسن ظنه بالله، ويذكرون عن شخص كان مسرفاً على نفسه، فحضرته الوفاة فبكى الحاضرون عنده، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: والله! نخشى عليك لأنك كنت وكنت، قال: أرأيتم لو عدت ورجعت إلى والدتي أكانت تحرقني بالنار، قالوا: لا والله، قال: الله أرحم بي من أمي، انظر الرجاء! والصديق بنفسه يقول: (والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة، والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله) .
إذاً: في هذه الكلمات التي علمه رسول الله إياها وهي تعليم لنا: بيان وتوجيه فيما ينبغي أن يعقد العبد مع الله من قوة الرجاء، ويجتهد بقدر ما استطاع لطلب المغفرة من الله.
(وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) متفق عليه.
انظروا الترتيب والمقابلة، (اغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، وهكذا في الدعاء: الإنسان يسأل الله من أسمائه الحسنى بما يتناسب مع حاجته؛ لأن الصديق طلب المغفرة والرحمة فقال: اغفر لي وارحمني إنك أنت غفور رحيم، ولم يقل: رزاق كريم، ولا قادر علي عظيم؛ لأن حاجته المغفرة، وكأن كل اسم من أسماء الله باب مفتوح للخير، فتطرق ذلك الباب بتلك الصفة وبهذا الاسم.
وبالله تعالى التوفيق.