[خلاف العلماء في المسح على الرأس]
قال رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة) أخرجه مسلم] .
هنا بدأ المؤلف بقضية مستقلة، وهي كيفية المسح على الرأس.
فقد جاء النص مجملاً في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:٦] ، فكيف يكون المسح؟ إن الرأس من حيث هو في الوضوء إما أن يكون عارياً، وإما أن يكون عليه العمامة أو العصابة كما يُقال، أو الخمار كما جاء.
فإن كان عارياً، فما الجزء المجزئ في مسحه؟ هناك من يقول: أيُّ معنىً يصدُق عليه المسح -أي: أيُّ مقدار يصدُق عليه المسح فهو مجزئ، وهو قول الشافعية.
ولكن هذا القول حمله بعضهم على التفريط في هذا الأمر، كما قال النووي رحمه الله: والمنصوص أنه لو مسح ثلاث شعرات أجزأ؛ لأن أقل الجمع ثلاث، وقد أفرط بعض أصحابنا فقال: لو مسح بعض شعرة أجزأ.
ثم يقول: وكيف يتحقق مسح بعض شعرة؟! فقال: إذا ما طلى إنسان رأسه بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء -والجزء البارز من تلك الشعرة ليس هو كل الشعرة- فمسح هذه الجزئية من الشعرة، أجزأه.
ولكن يقول النووي: هذا تفريط، وقد ذكرتُه لأنبه عليه، ولا يُغتر به، ولو عظُم قائله.
والقول الثاني: أقل ما يجزئ من مسح الرأس ربعه.
وهو مذهب الأحناف.
المالكية والحنابلة يقولون: الواجب مسح جميع الرأس.
فهناك من يقول: يجب استغراق الرأس.
وهناك من يقول: فيه عموم، فمعناه أنه قد يفوِّت بعض الرأس، وهو أقل شمولاً من القول بالاستغراق.
وخلاصة القول فيما يجزئ من مسح الرأس إن لم يكن عليه عمامة أن العلماء مختلفون في ذلك.
فمنهم من قال: أقل ما يصدُق عليه وهو للشافعية، وفيه ما فيه.
ومنهم من قال: ربع الرأس، وهم الأحناف.
ومنهم من قال: يمسح جميع الرأس.
والجميع متفقون على أن مسح جميع الرأس هو الأفضل، فمن اقتصر على بعضه أو على الربع يقول أيضاً: لو مسح الكل لكان أفضل.
أما إذا كان على الرأس عمامة، فيقولون: لها ثلاث حالات: الأولى: أن يمسح على العمامة وحدها دون أن يمس الرأس.
الثانية: أن يمسح على الناصية تحت العمامة فقط.
الثالثة: أن يمسح على الناصية تحت العمامة ويكمل على العمامة.
فهي حالات ثلاث: فإما أن يقتصر على العمامة كما يقتصر على الخف في القدمين.
وإما أن يقتصر على ربع الرأس وهو الناصية تحت العمامة.
وإما أن يجمع بين الناصية والعمامة.
فهذه الأقوال مجمل ما قيل في مسح الرأس في الوضوء.
أما في الغسل فلا عمامة ولا قلنسوة، وعليه يجب تعميم الغسل.
وهنا حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه نأخذه كأصل في المسألة.
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) .
فحديث المغيرة يكون أوفى، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه روى كثيراً من حالات وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً في سفره معه في غزوة تبوك.
فقوله: (بناصيته) الناصية: مقدَّم الرأس، أي: قدر وضع اليد على مقدَّم الرأس، فهذه هي الناصية.
فلقوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن القدر المجزئ هو المسح على الناصية وقدرها.
وقال: إما أن ينفرد المسح على العمامة، وإما إن ينفرد على الناصية، والمغيرة لم يرِد الجمع بينهما، وإنما أراد أنه مسح على الناصية تارةً، وعلى العمامة وحدها تارةً.
والآخرون يقولون: المغيرة يحكي حالةً واحدة في الوضوء الواحد، وهو أنه جمع بين الناصية والعمامة.
فقال أبو حنيفة: لا يوجد مانع، الناصية قدر الواجب، والتكميل على العمامة أو على الرأس تمام السنة والفضيلة.
وقال: لو كانت العمامة وحدها تجزئ لما كانت هناك حاجة إلى الناصية، ولو كانت الناصية مكملة للفضيلة لما كانت هناك حاجة إلى العمامة، فهو جمع بين المفروض والمسنون، فمسح على الناصية لأنه أقل الواجب في الفرض، وأتم على العمامة؛ لأنه الأكمل والسنة والأفضل.
وعند مالك رحمه الله لا يُقْتَصَر المسح على العمامة وحدها إلا للضرورة، كشدة البرد أو الحاجة، كما جاء في قصة التساخين والعصائب والعمائم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً فاشتد بهم البرد، فأمرهم أن يمسحوا على التساخين وعلى العمائم) ، قالوا: و (التساخين) هي نوع من القماش يُلف على القدم تسخَّن به، وينوب عن ذلك الخفُّ أو الجوربُ المتين.
وكذلك العصائب والعمائم المشدودة على الرأس.
ولمن يجيز المسح على العمامة فقط شرط، وهو أن تكون العمامة محنكة، ومكورة، ويقصدون بالمحنَّكة: التي يأتي طرفها من تحت الحنك ويذهب به مرة أخرى إلى الرأس أي: أنها ثابتة يشق نزعها في كل وقت، فتسهيلاً عليه يمسح عليها.