للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تحريم الخمر شرباً وبيعاً واستعمالاً

الخمر من حيث هي اسم جنس يصدق على كل ما خامر العقل، والتخمير: من الخمار وهو الغطاء على الوجه، (خمروا الإناء فإن البلاء ينزل في ليلة من السنة) ، (خمر -أي: ضع عليه الغطاء- فإن لم تجد فضع عليه عوداً وقل: باسم الله) فالخمر: اسم جنس لكل ما خامر العقل، سواء كان سائلاً، أوجافاً، بأي نوع من الأنواع، فهو خمر في مسماه اللغوي، والشرع جعل كل ما أسكر خمراً، ولو كان لا يسكر منه إلا الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر منه ملء الفرق فملء الكف منه حرام) ، وليس المراد من هذا التحديد بملء الكف، وأن خمسة كفوف، وعشرة كفوف، ليس بمسكر وليست حراماً، لا، ولكن المراد: المقابلة بين الكثير والقليل، وأن الجميع محرم، فالقطرة الواحدة حرام شرباً وبيعاً.

كان أحد الناس يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنبيذ وبخمر، قبل أن تحرم الخمر، وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يشرب النبيذ: نبيذ الزبيب، نبيذ التمر، نبيذ كذا وكذا، من الأشياء التي تنبذ في الماء فتعطيه الحلاوة والطعم، ما لم يتخمر أو تمضي عليه أربع وعشرون ساعة، فإذا تخمر قبل أربع وعشرين ساعة لم يشربه، وإذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة -ولو لم يختمر- تركه لغيره ولم يشربه.

فجاء ذلك الرجل بزق من الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكان يسمونه: مسجد الفضيخ، قال: يا رسول الله! أهديت إليك هذا، قال: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فجاء رجل وهمس في أذن صاحب الخمر، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ماذا قال لك؟ قال: يقول: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه) .

وتحريم البيع يدل على المنع، وسيأتي النقاش في منع البيع، أو منع الاستعمال.

يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله حرّم) لو قال: إن الله حرم، فيكون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم، فيكون بوحي من الله، فالتحريم من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان، فإذا ذكر التحريم من الله فقط لزم التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لزم التحريم من الله أيضاً.

(إن الله حرّم بيع الخمر) ، يعني: إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حرما بيع الخمر.

وعلى هذا تكون الخمر محرمة مطلقاً، شرباً وبيعاً واستعمالاً، وقد ذكرت لكم مرة ما وقع من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه حينما انتهى من فتح الشام دخل الحمام، وبعد أن دخل الحمام ادهن أو اطلى بالنورة في مواطن الشعر، يعني استعمل النورة مزيلاً للشعر، وهذا معروف عندهم، لكن النورة حارة تلهب الجلد، فأخذ العصفر، وعجنه بالخمر؛ لأن الخمر بارد، وطلى به مواضع النورة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: يا خالد! بلغني أنك استعملت الخمر في كذا وكذا، وقد علمت أن الله حرمها.

فكتب إليه: يا أمير المؤمنين! إني لم أشربها، ولكنني استعملتها غسولاً -أغسل بها محل النورة-.

فكتب إليه مرة أخرى: لقد علمت أن الله حرم الخمر، وإذا حرم الله شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، ولكنكم آل المغيرة فيكم جفوة، أرجو ألا تموتوا على ذلك.

فكتب إليه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين! هذا في البداية والنهاية لـ ابن كثير، لمن أراد أن يرجع إليه.

فهنا قول عمر: قد علمت أن الله حرمها، وإذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يستعمل في الظاهر مثل الميكروكرم أو صيغة يود أو أي شيء مطهر.

(إن الله حرم بيع الخمر) إذاً: نأخذ من لازم تحريم بيعها تحريم الانتفاع منها؛ لأن الذي يريد أن يأخذها ماذا يصنع بها؟ لابد أن ينتفع بها، ينتفع بماذا؟ لا يوجد إلا الشرب.