فجاء (واستلم الركن) والاستلام إنما هو للحجر الأسود؛ لأنه في الركن، كما هو معلوم للجميع، وأما كيفية استلام الركن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم بيان ذلك أنه استلمه ووضع كفيه عليه وقبّله بدون صوت، فإذا تيسر للإنسان ذلك فبها ونعمت، وإذا لم يتيسر له ولمسه بيده عن بعد قبّل يده، وإذا لم يتيسر له وكان بيده محجن أو عود أو شيء ولمس بالعود طرف الحجر قبّل الجزء الذي لمس الحجر من ذلك العود أو القضيب أو نحوه، حتى ولو بطرف الغترة إذا كنت بعيداً وأعطيتها لشخص قريب من الحجر وقلت له: مس بهذه الغترة الحجر، فإذا مسها أخذتها وقبّلتها، وإن لم يتيسر هذا أشرت بيدك وكبّرت ومضيت في طريقك.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الزحام عند الحجر، قال لـ عمر رضي الله عنه لما قال:(كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية فماذا أفعل؟ فقال: أوف بنذرك، ثم لما أراد الذهاب، قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول: إن الضعيف والقوي لا ينبغي أن يزاحما؛ لأن القوي يؤذي غيره، والضعيف يتأذى بغيره، إذاً: لا حاجة إلى الزحام، وإن كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه له في ذلك رأي آخر، ولكن رأي الجمهور وحث النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى، وخاصة مع ما نشاهده الآن من مزاحمة النسوة على استلام الحجر أشد من مزاحمة الرجال، وهذا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يحق للمرأة -كما يقولون- أن تهدم مِصراً لتبني قَصراً، أتريد أن تصل إلى فضيلة تقبيل الحجر على أكتاف الرجال؟!! فلا ينبغي لها هذا أبداً، وكذلك يجب على الرجل الذي معها أن يحدها وأن يمنعها عن مثل هذا الزحام الذي لا يليق بحرمة المرأة، وخاصة تحت جدار الكعبة.
إذاً: لا ينبغي الزحام على الحجر، لا من رجل ولا من امرأة، لا من قوي ولا من ضعيف.
وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حينما قدم إلى الركن ليقبل الحجر قال:(إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ، يقولون: جاء في رواية -الله أعلم بصحتها-: أن علياً سمع قول عمر، فقال:(لا يا أمير المؤمنين! إنه يضر وينفع؛ لأنه يأتي يوم القيامة له لسان وعينان، يشهد لكل من استلمه) ، ويذكر العلماء في هذا آثاراً عديدة منها:(الحجر يمين الله في أرضه) ومنها: (الحجر نزل من الجنة) وتاريخ الحجر طويل.
ويهمنا هنا قول عمر:(إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) فيه ما يرد به على أولئك الذين يشككون ويوردون شبهة وهي: أنهم يقولون: الإسلام ينهى عن تعظيم الأحجار، ويحطم الأصنام، ثم يقول: قبلوا حجراً! فما الفرق بين هذا الحجر وبين الصنم؟ ويوردون بهذا تشكيكاً على بعض الناس، ومن الأسف كل الأسف أني وجدت من يتصف بالعلم قدم من الآفاق، وطاف بالبيت وامتنع عن استلام الحجر، وقال لي من يصحبه: أنا لا أؤمن أو لا أوقن بمشروعية تقبيل الحجر بعد أن حطمت الأصنام، وهذا تحكيم للعقل، والعقل يقتضي أيضاً الإيمان بالله وبما جاء عن رسول الله؛ لأن سيد الخلق الذي حطم الأصنام بقضيب في يده جاء وقبّله، أي: لبيان الامتثال لأمر الله سبحانه.
ثم لنعلم أيها الإخوة! أنه صلى الله عليه وسلم عندما طاف بالبيت واستلم، وجاء إلى مقام إبراهيم وصلى ركعتين سنة الطواف، ماذا قرأ فيهما؟ قرأ بالتوحيد، فقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:١] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:١-٢] فكأنه بعد أن قبّل الحجر واستلمه يعلن بأن الله واحد أحد، وأنه ما قبّل الحجر عبادة له، وما قبّل الحجر تعظيماً لحجريته، وإنما قبّله امتثالاً لأمر الله، ولسان حاله أنه يقول: يا أيها الكافرون! أنتم في دين وأنا في دين، وأنا بعيد عنكم وأنتم بعيدون عني كما قال تعالى:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:٢] أي: فلم أقبّل الحجر كما تقبلون أنتم، وهكذا تأتي سورة الكافرون، وسورة الإخلاص في ركعتي الطواف رداً على هذه الشبه مسبقاً من ذلك التاريخ.