[أرجى الليالي التي يتوقع أن تكون فيها ليلة القدر]
ونأتي إلى بعض النصوص الأخرى المتفق عليها، ونترك الأربعين قولاً التي ذكرها المؤلف.
وهنا: من الليالي التي هي أرجى ليالي القدر ليلة واحد وعشرين، وذلك لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما كان معتكفاً في العشر الوسطى، ثم خرج على الناس برأسه من خبائه وقال: (من كان معتكفاً معي فليعتكف) لأن راوي الحديث يقول: فخرجنا في صبيحة عشرين بأمتعتنا، أي: انتهينا، فخرج عليهم فقال: (من كان قد اعتكف معي فليعتكف، فقد أُتيت وأخبرت أن الذي أطلبه أمامي -يعني في العشر الأواخر- وقد رأيتني -أي: فيما يرى النائم، أو رأيتني فيما يوحى إليَّ إلهاماً، أو نفث في روعي.
كل ذلك يصدق عليه- أني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) يقول راوي الحديث: وما كان في السماء من سحاب ولا قزعة، فأمطرت السماء ليلاً، وكان المسجد من العريش -أي: من الجريد والجذوع- وأرضه من التراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الصبح في أثر الماء والطين، أي: فوكف السقف ونزل الماء من المطر، وتبللت أرض المسجد، يقول: ولقد رأيت الطين والماء على أرنبة أنف رسول الله وعلى جبهته، وكان ذلك صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذه رواية صحيحة أنه قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) وجاء الماء والطين صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذا دليل على أنها في ليلة واحد وعشرين.
وفي عموم (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) روى مالك رحمه الله في الموطأ، وهو في صحيح البخاري وفي السنن: أن رجلاً من جهينة كبيراً في السن كان يسكن أطراف المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني رجل كبير السن، أسكن في البادية، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد رجاء ليلة القدر) فهذا رجل كبير السن، ساكن في ضاحية المدينة، يصلي بقومه، سأل رسول الله أن يعين له ليلة ينزل فيها إلى هذا المسجد بغية ورجاء ليلة القدر، فماذا قال له؟ قال: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) .
ونحن نقف عند هذا الأثر، الرجل يقول: أنا رجل كبير، وأصلي -بحمد الله- بقومي، ولا أستطيع النزول كل ليلة إلى هذا المسجد، يعني أنه يرغب أن ينزل ولكن يشق عليه، ثم يقول: أريد أن أنزل ليلة، فمرني بليلة وعين لي ليلة أنزل فيها تحرياً لليلة القدر، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل كبير، وأنت تصلي بقومك، صل هناك وتحر ليلة ثلاث وعشرين، ولكن أقره على الرغبة في النزول إلى هذا المسجد النبوي الشريف، وعين له الليلة التي ينزل فيها.
إذاً: لا نعيب على الناس حينما يأتون من حيث شاءوا إلى المسجد النبوي الشريف يتحرون ليلة القدر فيه، وهم يتحرونها فيه؛ لأننا نعلم جميعاً أن الصلاة فيه بألف صلاة، فإذا صادفت ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، إذاً: فستكون ألف في ألف فهذا فضل عظيم! إذاً: هذا الحديث يبين لنا مدى فضل الصلاة في المسجد النبوي في رمضان وفي العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر ولو كانت نافلة، ولا نقول: كلٌ يصلي في مكانه، فهذا صحيح ولا مانع أن يصلي الرجل في بيته، أو يصلي في باديته، أو يصلي في حاضرته حيثما كان؛ لأن هذا الرجل سأل، والرسول قرره على رغبته، وعين له الليلة التي يتحرى أو هي أحرى أن يصادف فيها ليلة القدر.
تأتي أحاديث عموم الوتر فيدخل فيها ليلة خمس وعشرين، لكن ليس فيها نصوص بذاتها كالحادية والعشرين، والثالثة والسابعة والتاسعة والعشرين، ثم نأتي إلى ليلة سبع وعشرين وهي من الوتر، فنجد فيها هذا الحديث الذي اختاره المؤلف وساقه هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ليلة سبع وعشرين، فمن كان متحرياً فليتحرها أو تحروها ليلة سبع وعشرين) وهنا نجد أن الجمهور يرجحون أنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن عدداً من الصحابة رأوها في منامهم، وتواطأت رؤياهم عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ثم نجد بعض الاجتهادات في تأييد أنها في ليلة سبع وعشرين.
فمن تلك الاجتهادات قول بعض العلماء: إنها معينة في سورة القدر في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:٥] يقولون: إذا عددت من أول قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١] إلى كلمة (هي) فستجد كلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من كلمات السورة، و (هي) ضمير مفرد مؤنث، فقالوا: إذاً: هي في ليلة سبع وعشرين.
وهذا -كما يقولون- ربما يكون من باب المصادفات، وقد ساق ابن كثير والقرطبي وكثير من المفسرين أن عمر رضي الله تعالى عنه كان كثيراً ما يدخل ابن عباس في مجلسه وهو غلام، ويرى من شيوخ الصحابة نوع استغراب أن يجالس غلام كبار الصحابة، فأراد عمر أن يبين لهم أنه ما أجلسه معهم إلا لفضله وعلمه وإن كان غلاماً، وفي بعض المجالس سأل عن سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] فتكلموا فيها وقالوا: هي بشرى بالفتح، وبشرى بالنصر، وبشرى بانتصار الإسلام، وابن عباس ساكت، فسأله عمر: ماذا تقول يا ابن عباس؟! قال: والله! لقد نعت إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا؛ لأنه إذا جاء نصر الله، وإذا دخل الناس في دين الله أفواجاً، فمهمة الرسالة قد تمت، ولم يبق هناك حاجة للبقاء، فليتأهب، ويسبح بحمد ربه ويتزود ليلقى ربه.
فقال عمر: وأنا أقول ذلك.
ومرة أخرى سألهم عن ليلة القدر، فخاضوا في بعض الأحاديث وفي رؤى بعض الصحابة، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟! قال: إني لأعلم أي ليلة هي.
قال: وما هي؟ قال: هي لسبع بقين أو لسبع خلون، (لسبع بقين) يعني: ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن الباقي بعدها سبع ليال، أو (لسبع خلون) يعني: ليلة سبع وعشرين؛ لأنه قد خلت ومضت قبلها سبع ليال، قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن الله خلق السماوات سبعاً، والأراضين سبعاً، وجعل الجمرات سبعاً، والطواف سبعاً، والسعي سبعاً، والأسبوع سبعاً، والشهر يقوم على سبع، والإنسان خلق من سبع، وغذي بسبع.
وذكر أشياء من هذا كثيرة.
قال: فهذا الطواف والسعي والسماوات عرفناها، ولكن الإنسان كيف خلق وكيف غذي؟ قال: يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:٢٤-٣١] والأبٌّ للدواب، وهذا رزق الإنسان مبني على هذا، وأطواره سبعة: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم كسي العظام لحماً ثم أنشى خلقاً آخر، قال: والله لقد غصت على ما لم نغص عليه، فاعترف له عمر رضي الله تعالى عنه بالفضل وبدقة الاستنتاج.
يهمنا هنا قول ابن عباس: لسبع بقين، أو لسبع مضين.
وهذا يتعين إما ليلة ثلاثٍ وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين، هذا ما يتعلق بالتعيين.