يذكر وكيع في إخبار القضاة: أن شيخاً دخل ومعه شاب على القاضي، فادعى الشيخ على الشاب ألف دينار، فسأل القاضي المدعى عليه: ما تقول؟ قال: نعم، أقر بأن له عليّ ألف دينار، فتعجب القاضي! ثم قال: قوما عني وارجعا غداً، فذهبا، وكان في السابق القاضي يستصحب طلبة العلم والعلماء ويستشيرهم في مجلس القضاء بغية الوصول إلى الحق، فكان بعض أصدقاء هذا القاضي من العلماء جالساً، وسمع الدعوى، وسمع الإقرار، ورأى القاضي صرفهما، فلما انصرف قال: ما بالك؟! مدعٍ يدعي ومدعى عليه يقر بصدق الدعوى، وتقول: قوما وارجعا غداً! لماذا لم تحكم بمقتضى الإقرار؟! قال له: على رسلك، ننتظر، وفي الغد جاء شخص مع الشيخ والشاب يصيح: مولانا القاضي! إن ولدي هذا قد أفسد علي مالي، وقد طلب مني ألف دينار، فامتنعت أن أعطيه، فأتى وتواطأ مع هذا الشيخ، أن يدعي عليه بألف فيعترف، وليس عنده ما يسدد، فتحكم عليه بالحبس، فتأتي أمه وتلح عليّ أن أدفع الألف لأخرجه من الحبس، ثم يخرج ويقتسمها مع الشيخ.
فهنا التفت القاضي لصاحبه وقال: أرأيت؟! قال: ما الذي ساق نظرك لذلك؟! قال: ألم تر سرعة إقراره؟! لأنه قال فوراً: نعم.
وبهذه المناسبة أذكر أنه دخل عليّ شيخ وشاب، والشيبة أعرف اسمه له قضايا كثيرة، وكان الشاب يدعي على الشيخ أنه باعه أرضاً وقبض ثمنها منذ ثلاث سنوات، ولم يسلمها إليه، ويطلب الحكم عليه بأن يفرغ له الأرض، فإنه باعه الأرض منذ ثلاث سنوات وأخذ ثمنها، ولم يفرغ له الأرض، فطلب أن يفرغها له، وهذا حق.
فسألت الشيبة المدعى عليه، فقال: نعم، أنا بعت واستلمت! فضحكت! فالشيبة فطن فقال: لماذا تضحك؟! قلت: أضحك عليكم، قال: لماذا؟ قلت: أنت -يا فلان- شيبة، وتعرف المحاكم، وتذهب وتأتي، ما هي قضيتكم التي أنتم تختصمون فيها؟ كيف يقول: اشتريت، وأنت تقول: بعت واستملت، بلا إنكار؟ فضحك الشيخ!! فقلت: لماذا تضحك؟! قال: لأنك فهمتنا! قلت له: ما هي القصة؟ قال: أنا بعت، وجئنا لكاتب عدل ليكتب، فامتنع؛ لأن الأرض فيها مبيعات، وليس فيها حلول درعة، وقال: لازم تعملوا درعة وتأتوا، فقلت: إذاً: دعواكم عند الكاتب.
فقد يكون الإقرار مظنة التهمة، والقاضي الفطن يتنبه لدوافع الإقرار.