للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب]

إلى هنا المسألتان بينهما مناسبة ولكن قوله: (ولا يتنفس في الإناء) -وهي المسألة الثالثة- فيه النهي عن التنفس في الإناء عند الشرب، فما علاقة التنفس في الإناء مع هاتين المسألتين المتقدمتين؟ وموضوع التنفس في الإناء جاء إيضاحه أكثر عندما نهى صلى الله عليه وسلم الشارب عن أن يتنفس في الإناء -أي: الإناء الموجود- قال قائل: (يا رسول الله! إنني لا أروى من النفس الواحد، فقال: أدر القدح عن فيك وتنفس، ثم أعد القدح واشرب.

قال: إني أجد فيه القذاة -القشة أو شيء تستقذره النفس، فيريد أن يبعد بنفخة- قال: أبنه عنك) أي: لا تبعده بالنفس.

ونحن نبين الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء، قالوا: إن الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء وأنت تشرب أن الحلق ينتهي بطريقين: طريق دخول الهواء للرئة، وطريق دخول الطعام والشراب للمعدة، وعند افتراقهما كيف يميز الهواء عن الطعام والماء؟ قالوا: يوجد صمام على شكل عضلة، إذا أراد أن يبلع طعاماً أو شراباً فالعضلة في الحلق تنقبض فتسد طريق الهواء، وإذا أراد أن يتنفس انفتحت هذه الفتحة وذهب الهواء إلى الرئة؛ لأنه لو قدر أن قطرة ماء وصلت أو جاءت خطأً أو بسرعة إلى طريق الهواء فإنها تضر الرئة.

ومن حكمة الله أن القصبة الهوائية التي تتفرع من الزور إلى الرئة يوجد فيها شعيرات تمتد إلى أعلى وليس إلى أسفل، أي: تنبت كما ينبت الخوص في الجريدة إلى أعلى، فإذا جاءت قطرة وسبقت لسان المزمار من أن يسد طريق الهواء، فإن تلك الشعيرات التي في القصبة الهوائية تطرد ما أتى ودخل عليها من ماء أو طعام، ولو نصف حبة سمسم، ولا تزال كل طبقة تطردها إلى أعلى وتتلقاها عنها التي أعلى منها، وتتلقاها ما بعدها إلى أن تردها إلى الحلق فتنزل عن طريق المعدة؛ لأنها لو وصلت إلى الرئة أفسدت فيها شيئاً كثيراً.

وعملية بلع الطعام والشراب ليست مجرد انزلاق من أعلى إلى أسفل، بل إنها عملية امتصاص ودفع، وكما يقول بعض الأطباء في هذا: لو علق إنسان من قدميه وتدلى رأسه إلى أسفل وأعطي الماء فإنه بتلك الحالة يستطيع أن يشرب الماء ويبلعه وهو منكوس الرأس، ويستطيع أن يمضغ التمرة والطعام ويبلعه ويصل إلى معدته وهو منكوس الرأس، لأن هناك عملية امتصاص ودفع.

إذاً: عندما يشرب الإنسان وينتهي نفسه في الشرب ويريد أن يزيد ماء فإنه سيأخذ نفساً، وعندما يأخذ نفساً والإناء على فيه فلربما سبق الماء إلى الرئة عند أخذ الهواء فيكون خطراً عليه، وهذه يسمونها الشرقة، والشرقة بالماء من أصعب ما يكون؛ لأن رد الشعيرات للماء أصعب من ردها لقطعة من الخبز أو التمر أو غير ذلك.

وهنا تظهر الحكمة النبوية في كونه صلى الله عليه وسلم ينهى عن التنفس في الإناء عند الشرب، والفقهاء يقولون: نهى عنه لأنه ربما خرج مع الهواء الخارج من أنفه ما يقذر الماء.

ما هي الرابطة بين (لا يتنفس في الإناء) وبين (لا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه) ؟ يمكن أن نقول: بجامع الاستقذار؛ لأن من تنفس في الإناء كان عرضة لتقذيره أو كان عرضة لإيذائه بوصول شيء من الطعام أو الشراب إلى القصبة الهوائية فيؤذيه، وهذا كذلك قد يؤذيه باستعمال اليمنى في ذلك.

والله تعالى أعلم.