[النظر إلى من هو أسفل منك]
قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي) ] .
أول جملة في الوصية أن أنظر إلى من هو أسفل مني.
والناس في الدنيا قسمان بالنسبة إليك، دونك وأعلى منك، مهما كنت، وإن كنت لا تملك إلا درهماً، فهناك من هو دونك لا يملك درهماً، وهو مريض، فهو دونك.
وإن كنت تملك ملياراً، فهناك من يملك مائة ألف فهو دونك، وهناك من يملك المليارات فهو فوقك.
إذاً: دون وفوق أمور نسبية، ومهما كنت في حالة من الحالات، فهناك من هو دونك، وهناك من هو فوقك.
انظر إلى هذه الجملة! والله! ثم والله! لو أن العالم كله وقف عندها، وطبقها لاستراح، إذا نظرت إلى من هو دونك وعندك مائة ألف، أو ألف ريال، أو في يدك عشرة ريالات، وهو عنده ريال واحد، فصاحب الريال ماذا سيفعل به؟ سيأخذ له رغيفاً من الخبر، وقليلاً من ملح، أو حبتين تمر! وأنت معك عشرة ريال، ستأخذ خبزاً، وتأخذ لبناً، وتأخذ جبناً، وحلواء، فإذا نظرت إلى صاحب الريال وأنت معك عشرة، فهل تقلق وتنزعج أو ترضى؟ ترضى وتطمئن، وإذا نظرت لمن عنده ألف ريال، ستقول: أوه! والله! هذا سيأتي بذبيحة، هذا سيفعل، وتجري على يديك ورجليك من أجل أن تدركه فلا تستطيع، إنسان يمشي وهو يتوكز على عصا، وآخر يزحف على الأرض، وآخر يجري على قدميه، وأنتم في طريق واحد، وأنت تمشي برجلك وتتوكز على عصا، والآخر مر عليكم مثل الفرس، فلو نظرت إلى هذا السريع وأردت أن تجري مثله، تتعب نفسك وتسقط، لكن إذا نظرت إلى هذا الزحاف مشيت على مهلك؛ لأنه يوجد من هو أقل منك.
ولو كنت صاحب سيارة، انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى سيارة أحسن من سيارتك، لأنك إن رضيت بسيارتك استرحت، وهي ستوصلك، وإذا نظرت إلى الأخرى تألمت.
كذلك في البيوت، إذا نظرت إلى من يسكن في عشة في خيمة في صندقة، وأنت في بيت من اللبن، قلت: الحمد لله معي بيت مبني، وإذا نظرت إلى صاحب الفيلة والعمارة والحديقة ماذا تفعل؟ تبيت كمداً، والحسرة لا تفيدك شيئاً.
وفي الملابس قد تقول زوجتك: أريد فستاناً، فتشتري لها بمائتين ريال، فتقول: لا! فلانة عندها فستان بألف، فإذا نظرت إلى من فوقها أرهقت زوجها، وشقت عليه، ونكدت نفسها، وما طابت نفسها بفستان بمائتين، لكن التي ما عندها، ولا شيء، وتستعير ثوباً من جارتها إذا احتاجت، فإذا جاءها فستان بمائة ريال تقول: هذا ليوم العيد، وتفرح به؛ لأنها ما عندها شيء، فلو نظرت المرأة إلى من دونها أراحت نفسها، وأراحت زوجها.
وهكذا في الأمور الأخرى، بعضهم يقول: مهر ابنتي كذا.
لا، لازم بنتي يكون مهرها كذا، ولو نظر إلى من كان مهرها عشرة ريال أو درهمين لفرح بمهر ابنته، لكن يقول: أريد الزواج في قصر صفته كذا، حتى في مكان الأفراح قد ينظر المرء إلى من فوقه أو ينظر إلى من تحته، وفي جميع أحوال الحياة، سواء في نفسك أنت، أو في ظروف حياتك، كلما نظرت إلى من هو دونك استرحت، وإذا نظرت إلى من هو فوقك تعبت، وكما يقول الناس: الذي يمشي في الطريق مستوياً مستريح، لكن الذي يمشي ونظره إلى السماء، رقبته ورأسه يدوخ.
والمقصود من هذا -يا إخوان- القناعة بالواقع، إذا كنت تنظر إلى من دونك، ووجدت نفسك خيراً منه، قنعت بما أنت عليه، وإذا نظرت إلى من هو فوقك لا تعرف القناعة لنفسك طريقاً ودائماً تقلق، وكان والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عندما جاء الرياض، يأتيه فلوس وهدايا من الملك عبد العزيز الله يغفر له، فقد كان يعطي العلماء في المناسبات، فكان الشيخ حالاً يقسمها على الأرامل، وعلى أسر منقطعة في المدينة من عوائل الشناقط، ويرسل لأهله أيضاً، وكان يكثر من هذا، ففي يوم كنت خالياً معه، فقال: أنا خائف على نفسي، جئت من بلادي بكنز عظيم جداً، والآن أخشى عليه الضياع، قلت له: ما هو هذا الكنز يا شيخ؟! أنا أعرف أن الشيخ في بعض الأحيان لا يجد مالاً، وهذا ليس عيباً في طالب العلم، وكان يرسلني لأقترض له من بعض الأشخاص، فقلت له: ما هو هذا الكنز وأنا اقترض لك من فلان وفلان؟ قال: هو كنز القناعة، كنت قانعاً بكل ما يكون في حياتي وجدت أو لم أجد كله عندي سواء، وفعلاً كانت الأمور عنده سواء، وهذا الكنز من القناعة من أين جاء إليه؟ من النظر إلى من هو دونه.
أيها الإخوة! هذه الجملة من الوصية تعطي الإنسان طمأنينة وقرارة نفس، وقناعة بالواقع، وأخيراً الأمر سواء، فصاحب المليارات وصاحب الريالات في النهاية هم مستوون، صاحب المليارات ليس له منها إلا ما أكل وأفنى، أو لبس فأبلى، وأنت ليس لك من دنياك إلا ما أكلت، أو لبست، وصاحب الريالات آكل ولابس، لكن الخلاف في النوعية، هذا يأكل لحماً مشوياً، وهذا يأكل جبناً وفولاً وطحينية، والمعدة ستمتلئ، والفوارق هذه لا يعادل بها طمأنينة النفس.
وهذا باب واسع، ومن أراد التوسع في هذه الوصية بالذات فليرجع إلى ذاك الكتاب: (وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم) .