قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما جئنا سرف حضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) متفق عليه في حديث طويل] .
هذا الحديث مثل الحديث المتقدم:(اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وهنا قالت عائشة: لما جئنا سرف، وسرف على مرحلتين من مكة في طريق المدينة، وكانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكانت محرمة بالعمرة متمتعة، ولما دنت من مكة فاجأتها الحيضة، وكانوا قدموا مكة صبح رابعة من ذي الحجة، أي: وفي اليوم الثامن بعد أربعة أيام سيذهبون إلى عرفات، وهي لن تطهر في هذه المدة، فهي بين أحد أمرين: أن تجلس في مكة حتى تطهر وتكمل عمرتها ويفوتها الوقوف بعرفة، أو تدرك الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي في خيمتها في سرف، فوجدها تبكي، فقال:(ما يبكيك يا عائشة؟! لعلك نفست؟ قالت: نعم) والنفاس من أسماء الحيض مثل: العراك، والفورة، والدم، فقال:(هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) ، أي: لست أنت وحدك التي يأتيك الحيض، وليس أمرك بيدك.
ومعلوم أن الحج أعماله كلها تدور على ذكر الله، فهل لها أن تذكر الله، فتلبي، وتأتي المشعر الحرام، وتأتي عرفات، وتقول ما جاء في الحديث:(خير ما قلته أنا والنبيون قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... ) إلى آخره، وتعمل بالآية:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[البقرة:١٩٨] أم أنها تمتنع بسبب حيضتها؟ الحديث الأول يتعلق بأمر اليهود في أمور الدنيا، وفي الأمور الخاصة، والأمور العائلية، والمعاشرة الزوجية، وحديث عائشة في الأمور الدينية، فقال لها:(افعلي -مع وجود حيضتك- ما يفعل الحاج) ، وقد أمرها أن تغتسل، وأن تدخل الحج على العمرة، فتقول: لبيك حجة في عمرة، وصارت قارنة من مكانها في سرف، واغتسلت من أجل إدخال الحج على العمرة للنسك وليس للحيضة، وأصبحت بعد ذلك قارنة، فجاز لها أن تجلس عند البيت، وتخرج مع الحجاج إلى عرفات، وتنزل من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى، وترمي الجمرات، ثم تنتظر، فإن طهرت في تلك الحالة اغتسلت، وطافت طواف الإفاضة عن الحج والعمرة المقترنين، وبهذا أكملت حجها، فالحديث الأول في أمور الدنيا والمعاشرة، وهذا في أمر الدين والعبادة:(افعلي ما يفعله الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) .
وإذا نهاها عن الطواف بالبيت، فما هو أشد تطلباً للطهارة: الصلاة أم الطواف؟ الصلاة؛ لأن الرسول قاس الطواف على الصلاة في قوله:(الطواف صلاة) ، فالطواف فرع عن الصلاة، فإذا منعت من الطواف بالبيت بسبب الحيضة، فمنعها من قراءة القرآن في الصلاة من باب أولى.
وهل تقرأ القرآن؟ القرآن هو لب الصلاة، وجاءت الأحاديث بمنع الحائض من قراءة القرآن ومن حمل المصحف.
إذاً: قوله: (اصنعي كل ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، ونضيف إلى عدم الطواف: قراءة القرآن وحمل المصحف، وهذا يبين لنا أن الحائض تذكر الله بغير التلاوة، وتفعل كل ما يفعله الحجاج: من الأذكار، ومن الوقوف بعرفات، والوقوف بمزدلفة، وذكر الله عند المشعر الحرام، وذهابها إلى منى، ورميها الجمار، والتكبير مع كل حصاة، وتنحر أيضاً إذا كان عليها نحر إن كانت تحسن النحر أو تنيب من ينحر عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم (نحر عن نسائه بقرة) .