قصة هذا القميص وعبد الله بن أبي بن سلول طويلة، ولكن أقول بإيجاز: عبد الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وكان أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين لنا خبره سعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة (ركب النبي صلى الله عليه وسلم ومر على مجلس فيه عبد الله بن سلول، وفيه جماعة من المسلمين، وجماعة من المشركين، وجماعة من جماعة ابن أبي، فلما مر من هناك عرض عليهم القرآن، فقال ابن أبي: يا هذا! والله إنه لكلام حسن لو كان حقاً، الزم رحلك، ومن أتاك فاقرأه عليه، فقال ابن رواحة: لا يا رسول الله! بل اغشنا به في مجالسنا وائتنا واقرأه علينا، فإنا والله نحبه، فتلاحى ابن رواحة ومن معه من المسلمين، وابن أبي وجماعته والمشركون وغيرهم، حتى أخذ صلى الله عليه وسلم يسكت في القوم ويهدئهم خشية الفتنة.
ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى جاء إلى سعد بن عبادة، فقال: ألا ترى ما فعل أبو الحباب؟! -كناه- قال: ماذا فعل؟ فأخبره بما قال، وقال: يا رسول الله! اعذره؛ -وتأمل معي هذا الكلام! - فإنك جئت بما أعطاك الله من الحق، وكانوا قد اجتمعوا على أن يتوجوه عليهم ملكاً، ففات عليه ما كان يريد بالحق الذي جئت به) انظروا -يا إخواني- كيف تكون مراعاة النواحي النفسية، فبعد أن أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، نجد هذا الصحابي الأنصاري الجليل يعتذر عنه.
كان قبل أيام على وشك أن يُنصَّبُ ملكاً، فَسُلِبَ ملكه، فهو بهذا لا يحتمل شيئاً بل هو قد فاته الملك بمجيء هذا الدين.
إذن: كان موقفه موقفاً حرجاً في ذاته وفي شخصه.
ثم أسلم إسلام النفاق وهو باقٍ على دينه، يكيد للإسلام والمسلمين.
وهو صاحب المقالة الشنيعة التي قيلت في عودتهم من غزوة بني المصطلق، حينما نزل المسلمون عند ماء، وتلاحى غلام لـ عمر رضي الله تعالى عنه وغلام للأنصار على الماء، فغلب غلام عمر غلام الأنصار، فقال غلام الأنصار: يا للأنصار! وقال الآخر: يا للمهاجرين! فبلغت المقالة ابن أبي فقال: أوفعلوها؟!! والله! ما نحن وإياهم إلا كمثل القائل: سمِّن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، غلام الأنصار سمع هذه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فشغل الناس بأنفسهم، وحان وقت القيلولة -الوقت الذي ينامون ويرتاحون فيه- وواصل السير إلى الليل وإلى الغد، فقالوا: هذه حالة من رسول الله غير عادية، ما الذي حمله على ذلك؟ فعلموا ما قاله ابن أبي، فذهبوا يعنفونه، فعلم أن الخبر وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يعتذر: يا رسول الله! سمعت أنه بلغك أني قلت كذا وكذا والله ما قلت، هذا كلام كذب، ما قلت، الغلام يكذب عليَّ، يقول الغلام: والله كدت أن تنشق بي الأرض أن أكذَّب، فنزل القرآن بذلك:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا.
} [المنافقون:٨] إلى آخره.
وهنا يقول الأصوليون: قضية القول بالموجب وهي قاعدة أصولية {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}[المنافقون:٨] لم يقولوا من هو الأعز ولم يقولوا من هو الأذل، لكن يزعمون العزة لمن؟ لأنفسهم، بصفتهم أصحاب الأرض وأصحاب المال، فنزل القرآن:(يقولون) ثم جاء القرآن وقلب عليهم القضية، وميز من هو الأعز ومن هو الأذل حقيقة:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:٨] يبقى من هو الذي سيخرج الثاني؟ بمقتضى مقالتهم جاء الحكم عليهم، فجاء الوحي وصدق الخبر.