[حكم البصاق في المسجد]
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) متفق عليه] .
من آداب المسجد ما تقدم في أول حديث من هذا الباب: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وجاء في حديث سمرة -وهو من أحاديث (المنتقى) الذي شرحه الإمام الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار-) : (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا) ، وهذا يوضح معنى الدور؛ لأنهم قالوا: الدور قد تكون جمع دار، وقد يكون المراد بها الديار.
فحديث سمرة فيه: (أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا، وأن نحسن صنعتها) يعني:تكون في حالة حسنة، وليست في حالة رديئة أو حالة ليس فيها اعتناء، بل علينا أن نحسن صنعتها، فإذا أمر بحسن صنعة المسجد ففي هذا تعظيم للمسجد، واحترام للمسجد، وهو داخل ضمن قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:٣٢] ، فالمساجد بيوت الله وشعائره، وسيأتي الكلام على تشييد المساجد، وعلى زخرفتها، والحديث فيه مقال.
قوله: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) .
يقف العلماء أمام هذا الحديث من جانبين، فما دام أن البصاق خطيئة فلماذا تتعمد ارتكاب الخطيئة؟ بل اتركها، فإذا وقعت اضطراراً فليكفر عما ارتكبه اضطراراً، بأن يدفنها في التراب إذا كان المسجد تراباً، وقد جاء الحديث أيضاً: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق تلقاء وجهه؛ فإن الله تلقاء وجهه، ولا عن يمينه فيؤذي جاره، ولكن عن يساره وتحت قدمه) ؛ لأنه يستطيع بقدمه أن يدفنها.
وجاء في الحديث الآخر: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق كذا وكذا، ولكن يفعل كذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم طرف ردائه وبصق فيه، ثم دلك جانبيه) ؛ وذلك ليتشرب الرداء رطوبة البُصاق، وهذا في حالة ما إذا كان المسجد تراباً، وقد كان المسجد تراباً، كما جاء في خبر ليلة القدر: (.
وأريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) ، قال الراوي: فأمطرت السماء ليلة كذا، ووكف المسجد، وكان السقف من الجريد، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ماء وطين -يعني: أثره-، ولقد رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، فكانت أرضية المسجد من تراب، وبعد ذلك أتى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالحصباء -وهي: الرمل الخشن- بأطراف أرديتهم، ويأتي كل واحد منهم إلى مكانه في موقفه من الصف، ويفردها ويقعد عليها، حتى تم فرش المسجد بالحصباء، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا) .
وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ الخمرة ليصلي عليها في المسجد، ويختلفون في معنى الخمرة، فبعضهم يقول: هي القطعة من سعف النخل التي تكون على قدر صلاة الإنسان.
وبعضهم يقول: بل هي على قدر ما يسجد عليه بكفيه وجبهته وأرنبة أنفه، فيكون بعض جسمه على التراب، أو على شيء آخر.
والخمر ما يخمّر الوجه، أي: يغطيه.
ويذكر مالك في الموطأ عن وقت يوم الجمعة أنه كان لـ جعفر بن عقيل أو غيره طنفسة عند الجدار الغربي، فإذا علاها الفيء أذن المؤذن، أو جاء الإمام للخطبة، فكان توقيت الجمعة بعد الزوال؛ لأن ظل الجدار الغربي قبل الزوال يكون إلى الغرب؛ لأن الشمس ما تزال في الشرق، فإذا ما زالت عن كبد السماء إلى الغرب، انتقل الظل أو الفيء إلى الشرق، فإذا امتد الظل عند الجدار الغربي إلى الشرق حتى يغطي طنفسة -وهي سجادة صغيرة- دخل وقت الجمعة.
فكانوا يتخذون الفرش والخمر والطنافس ويصلون عليها، وكان بقية المسجد في تراب.
والأولى بالإنسان ألا يبصق في المسجد، لا في الصلاة ولا في غيرها تطهيراً للمسجد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، وسيأتي إن شاء الله، والقذاة: القشرة الصغيرة يخرجها من المسجد تطييباً وتنظيفاً للمسجد، والمرأة التي كانت تقم المسجد قد تقدمت قصتها مراراً.
فالبصاق في المسجد خطيئة، ومن هذا نعلم أنه لا ينبغي التعمد؛ لأنه لا يحق لإنسان أن يأتي الخطيئة عن عمد ولو كانت صغيرة، فإن إصراره عليها يحولها إلى كبيرة؛ لأن فيها امتهاناً للمسجد، إلا إن اضطر، خاصة إذا كان في الصلاة، ولا يستطيع أن يذهب يميناً ولا يساراً، ومن هنا نعلم ضرورة حمل المنديل مع الإنسان؛ لأنه بدلاً من أن يجعلها في ردائه ويبقى برداء فيه البصاق فالأولى أن يكون المنديل في جيبه فيبصق فيه، ثم بعد ذلك يغسله، وغسله أيسر من غسل الرداء.
والآن تطورت الأمور، فبعد أن كانوا يسمونه منديل اليد أو منديل الجيب، ويغالون في جنسه من حرير أو من خز، ويشتغلون فيه النقوش أصبحت مناديل الورق تجزئ عن هذا كله.
ففي هذا الحديث تأكيد لما تقدم في أول الباب أن من حق المساجد أن تنظف، وأن تطيب، فإن وقع من إنسان بغير اختياره أن بصق، وكانت الأرض تراباً فإنه يدفنها حتى لا تؤذي غيره؛ لأنها إذا بقيت على وجه التراب، وجاء إنسان وجلس، أو وطئها بقدميه سيتأذى، فدفنها يجنب الآخرين إيذاءها، وهذا -كما أشرنا- تتمة وتأكيد، لأول حديث ورد في هذا الباب، وتقدمت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة في بعض المساجد فحتها بيده، أو حتها بحجر، ولا نزاع، فهو أخذ الحجر بيده وحتها، فلا مانع، ثم قال: (لا يصلين بكم هذا الإمام بعد اليوم) ، فكانت هذه النخامة في جدار القبلة موجبة لعزله عن الإمامة؛ لأنه ما عظم حرمة القبلة، وانتهك حرمة المسجد وهو القدوة، فينبغي أن يكون على أمثل ما يكون في احترام المسجد وتوقيره.