قالوا: ما اتخذ اليهود قبور أنبيائهم إلا تعظيماً لهم، وتعظيم الأنبياء باتخاذ القبور مساجد سيؤدي إلى الانحراف في العقيدة، وقالوا: إن أول ما أشرك بالله إنما كان بسبب الغلو في الصالحين، كما حصل في يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين، فجاء الشيطان إلى أبناء أولئك الناس، وقال لهم: إن آباءكم وأجدادكم كانوا رجالاً صالحين، ولهم عليكم حق، فعليكم أن تدعوا لهم، فكانوا يدعون لهم، ثم جاء إلى الجيل الثاني وقال: لا يكفي هذا الدعاء، إنما عليكم أن تشركوهم في العبادة.
ففعلوا، فقال: إنكم لم تفعلوا مثل من كان قبلكم.
فقالوا: كيف نفعل؟ قال: مثلوا لهم تماثيل واجعلوها في مساجدكم، حتى إذا رأيتموهم نشطتم في العبادة وعبدتم الله كما كانوا يعبدونه، ففعلوا على حسن النية، وتركهم، حتى جاء جيل ثالث فقال لهم: أنتم عاصون لآبائكم؛ لأن آباءكم ما صوروا هذه التماثيل للناس الصالحين في المسجد إلا ليجعلوا لها جزءاً من صلاتهم، فعليكم أن تجعلوا لها جزءاً من الصلاة، فجعلوا لها جزءاً من الصلاة مع صلاتهم لله سبحانه، ثم تركهم على هذا الشرك الأولى، وهو أول افتراقهم عن الصراط السوي، فجاء بعد ذلك وقال للأجيال بعدهم: أنتم تكلفون أنفسكم شططاً، فلماذا تتكلفون وتأتون إلى المعابد؟! خذوا هذه التماثيل واجعلوها في بيوتكم، وكل قبيلة تجعل لها تمثالاً، وكل أسرة تجعل لها تمثالاً، وتؤدي حقها في بيتها، ولا حاجة إلى المجيء هنا، فاتخذت القبائل الأصنام، واتخذت الأسر الأصنام، وانصرفت العبادة كلها للأصنام من دون الله، أي أن الشيطان صبر في دعوته على أربعة أجيال في أربعة قرون، وأخذ يحولهم ويزحزهم حتى ذهبوا عن الطريق السوي.
فمن هنا كان اتخاذ القبور مساجد ذريعة إلى الشرك والوقوع فيه، ومن هنا نعلم سبب النهي عن الصلاة في المقابر، وتقدم لنا أن المقابر من المواطن السبعة التي نهي عن الصلاة فيها، اللهم إلا صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع، وليس فيها سجود، أما الصلوات الخمس أو النوافل فإنك إذا جئت عند القبر، واستقبلته وركعت وسجدت في أصله، فما كان للمشاهد إلا أن يقول: إنه يركع ويسجد للذي أمامه، فتكون صورة شرك، ولو لم يكن الشخص يقصد الشرك، كما نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تكون حينئذ بين قرني شيطان، فإن الشيطان عند شروقها وعند غروبها يأتي ويستقبلها بقرنيه، وهناك عباد للشمس يسجدون لها عند الشروق، ويسجدون لها عند الغروب، فيُرى الشيطان وقد قرن قرنيه بالشمس، فيوهم أتباعه وجنوده أن أولئك الذين يسجدون للشمس إنما يسجدون له هو، وهذا تدليس منه وإيهام.
ويتفق العلماء على أن النهي في هذه المسائل إنما هو لسد الذريعة، ولحماية جناب التوحيد، كما يقول السلف رحمهم الله.