وبهذه المناسبة فقد نجد أحاديث في تفاضل الأعمال، تختلف الفتوى فيها باختلاف الأحوال، كما سئل صلى الله عليه وسلم مرة:(أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) وسئل مرة أخرى: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ثم سئل (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) فنجد أن السؤال واحد، بينما الجواب مختلف، ومن هنا قال العلماء: ليس هناك تناقض، وليس هناك تعارض؛ لأن كل جواب ينزل منزلته بحسب حالته، والمسئول الحكيم يجب أن يراعي حالة السائل، فقد يسأل اثنان في حكم مسألة واحدة، فيبيحها لأحدهم، ويمنعها عن الآخر.
كما جاء في موضوع القبلة للصائم، جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم:(أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: نعم، -ثم بعد فترة وفي نفس المجلس- جاء رجل وقال: أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: لا، -ومضى هذا ومضى ذاك- ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لعلكم تعجبون أني سمحت للأول ومنعت الثاني، قالوا: إي والله يا رسول الله! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شيخ كبير، -لا خطر عليه- فأبحت له، ونظرت إلى الثاني فإذا به شاب قد خشيت عليه، فمنعته منها) وهكذا.
جاء في بعض الأخبار: أن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمام في تأويل الرؤى- جاءه رجل وقال: رأيتني أؤذن فما تعبير رؤياي؟ فنظر إليه وقال: تحج البيت إن شاء الله، وذهب، وجاء آخر وقال: رأيتني أؤذن، فنظر إليه وقال: تسرق وتقطع يدك، فعجب الحاضرون! الرؤيا واحدة، فكيف تختلف في التعبير، قال: نظرت إلى الأول فإذا به إنسان وديع مستقيم، فأخذتها من قوله سبحانه:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}[الحج:٢٧] ونظرت إلى الثاني، فإذا به على خلاف ذلك، فأخذتها من قوله:{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}[يوسف:٧٠] .
إذاً: لابد من مراعاة الأحوال عند الفتوى ففي هذه الأحاديث الثلاثة: بر الوالدين، الصلاة على أول وقتها، الجهاد في سبيل الله، لاختلاف أحوال السائل: فقوي البنية الذي يقوى على الجهاد أرشده للقتال، وضعيف البنية الذي لا يقوى على الجهاد أرشده إلى الصلاة على أول وقتها، وذو الوالدين أرشده إلى برهما، وهكذا كالطبيب يصف لكل ذي داء دواءً يناسبه.
إذاً: النصوص التي جاءت في بيان فضائل الحج كثيرة ويكفي ذكر بعضها، وهذا مراد المؤلف رحمه الله في اقتصاره على ما ذكر، وبالله تعالى التوفيق.