[تحقيق الخلاف في حكم صلاة الجماعة]
الذين قالوا: الصلاة فرض عين، قالوا: وهل يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق أناس على ترك سنة؟ إذ لا يجوز هذا.
ويقول الآخرون: نعم هم ولكن لم يحرق.
وهو مثل قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وما أمرهم، فالسواك سنة.
وقوله: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) فما كلفهم به.
فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق أقواماً، وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر مسنون.
ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به البعض سقط عن الباقين.
ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن قوماً تركوا الجماعة في المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم كأن يكون شخص يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع.
فقالوا: إذا قالوا: هي فرض كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها فرض كفائي لا دليل له.
وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق بالنار على ترك سنة.
فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني لهمه صلى الله عليه وسلم الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة، ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث يحرق البيوت وما فيها.
ففي غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً اسمه سويلم من المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية للتثبيط عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا عليهم الدار فذهب الثلاثة ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى البيت وأشعل فيه النار، حتى إن بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله.
فيمكن أن توقع العقوبة بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضاً لا مانع من جمع العقوبة المالية مع البدنية.
ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين، فيكون تحريق البيوت على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة.
وأجاب الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه.
ولذا قال له عمرو -في بعض المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) .
فقالوا: لا يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم عليه، بل ترك أمرهم إلى الله.
لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام ظاهراً، وبه عصموا دماءهم وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس على النفاق، ولكن على ظواهر أعمال الإسلام.
وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل: هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟! فلماذا لا يصلون أولاً، ثم بعد أن يصلوا يذهبون لإحراق البيوت على أولئك الناس؟ فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت الصلاة موسَّع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع من صلاة الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة.
فكل فريق يحتج بجانب، ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر.
ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار! هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن العذر يسقطها، وما كل عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى الهوام، وليس لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب) .
قالوا: ما هي الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل! قالوا: هذا رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان يأتي إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول الشاعر: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه فقالوا هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخّص له ابتداءً عرفنا أنها ليست بواجبة، ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب وأما قوله: (والذي نفسي بيده) فهو قَسَم كان يقسم به صلى الله عليه وسلم عند الاهتمام بالأمر، وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة، قالوا: سيق الحديث في أمر المنافقين، ولأن نهاية الحديث: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة) ، فكما تقول: يُرمم البنيان.
والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو كان يعلم أنه يجد شيئاً ضئيلاً لخرج إليه.
فهل من صفات المؤمن أنه يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات المنافق؟! إن المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئاً، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل بين الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق.
فالحديث سيق في أي شيء؟ قالوا: الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن يهدد بما لا يفعل.
وقالوا: القاعدة أنه إذا وُجِد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل تتدرج، فلو صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد ويسخط ويسب ومعه العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟ فعندما يأتيك إنسان معه عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو بعصاً مثل عصاه.
فالتدرج في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجراً وتخويفاً، كما يقال: (علِّق سوطك حيث يراه أهلك) .
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه سيصل إلى أولئك في بيوتهم.
قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق بعد هذا.
ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟ لقد ادعى من قال: إن الجماعة سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ بالمفاضلة (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وانتهى أمر التحريق.
وبعد هذه المقدمة -وهي خلاصة لما يقال في هذا الموضوع- نرجع إلى كلام الأئمة رحمهم الله.
فنجد المالكية والأحناف يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث روايات، يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، ويقول صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب.
والرواية الثانية: أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة.
والرواية الثالثة: عن أحمد: أنها سنة، كقول الجمهور.
والمشهور عند الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها فرض كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن قال بذلك داود الظاهري وطاوس، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو قول خارج عن نطاق المذاهب الأربعة.
ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا الرجل المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) .
وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولكن نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى الاجتماع والوحدة، بل إن معاذاً في أثره يقول: (ولا يقولن أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك تكونون قد تركتم هدي نبيكم) .