[معية الله]
ربما يتطلع الكثير إلى معنى: ثالث الشريكين وأقول: أرح نفسك، فهذا من مواطن العقيدة، ومواطن العقيدة ليست قواعد فقهية وإنما هي مبادئ اعتقاديه، وقد قال سبحانه وتعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:٧] ، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦] ، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ، وقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] ، وهذه المعيات حيرت علماء العقيدة، وحيرت حتى السلفيين؛ لأن السلف يقولون: نحن لا نئول آيات الصفات، مثل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، وكما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:٢٢] ، ونقول كما قال الله، ونقول: هي على مراد الله، لكن المعية أولوها وقالوا: المراد بالمعية: معية علم ونصرة وتأييد كما قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:٤٦] .
ويتعين على طالب العلم أن يتضلع من علوم العربية، كما أنه يذهب إلى مكة ويتضلع من زمزم.
وينبغي أن يعلم أحكام علم الوصل والفصل، ومجيء الجمل متتالية، فإن كانت الجملة الثانية معطوفة بالواو فهي بعيدة عنها مغايرة لها، وإن كانت بدون عطف الواو فهي عينها أو جزء منها أو مفسرة لها، فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] لم يقل بعدها: (وصراط الذين) ، بل قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧] ، فيكون الصراط المستقيم هو {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧] .
وكذا قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] ، لم يقل بعدها: (والذين يؤمنون) ، بل قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣] ، فيكون الذين يؤمنون بالغيب هم عين المتقين.
وكذلك هنا لم يقل: إنني معكما وأسمع وأرى، بل قال: {مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦] ، فيكون قوله: (أسمع وأرى) تفسير لقوله: (معكما) ، كما أن {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣] تفسير (للمتقين) .
وهكذا علم البلاغة يكشف لنا كثيراً من الغوامض في كتاب الله، ولما سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} [المجادلة:٧] ما معناه؟ وكيف يكون؟ قال: اقرأ ما قبلها وما بعدها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧] ، قال: بدأها بالعلم، وختمها بالعلم، فيكون المعنى: معهم بعلمه، وليس هذا من باب التأويل، وصرف الصفة عن معناها، ولكنه تحقيقها وتنزيلها على ما جاء به كتاب الله؛ لأن الله جعله قرآناً عربياً.
(أنا ثالث الشريكين) ، لا تتعب نفسك وتقول: كيف يكون ثالثهم؟ وهناك شريكان آخران فكيف يكون ثالثهم؟ وهناك شريكان أيضاً فكيف يكون هو ثالثهم؟ العلماء يقولون: (أنا ثالث الشريكين) بمعنى: من كان الله شريكه فإنه ولابد يربح، فالمعنى: وفقهما، وبارك لهما، وأربحهما في تجارتهما، والذين يخرج من بينهم رب العالمين سيكلهم لأنفسهم ويخسرون، فهذا هو المعنى الكلي، ولا تجهد نفسك في مسائل العقائد، ولا تحاول أن تتعمق فيها، ولن تحصل على شيء.
إذاً: الشركة يكون مبناها على الأمانة، وكما أسلفت أن العملة الصعبة في العالم كله في عالم التجارة هي الكلمة الصادقة، والوعد الوفي، والأمانة، فإذا وجدت هذه الثلاثة في إنسان أياً كان ولو لم يملك إلا درهماً واحداً فهو يملك السوق كله، وإذا فقدت هذه الصفات ولو كان رصيده الملايين أو المليارات فإنه لا يثق التجار بكلماته.
إذاً: هذا حث على صدق التجارة والأمانة والوفاء، وقد ذكرت لكم قضية الحديد المستورد من إيطاليا لرجل من جدة، هذا وهم كفار، ونحن أحق بهذا الوفاء منهم، وهم لم يفعلوا ذلك ديانة، ورجاء مثوبة عند الله بل من أجل الربح؛ لأن من يسمع عنهم بمثل هذا لن يستعيض عنهم أحداً أبداً، ويكون دائماً يتعامل معهم.