[ما يجب على المستمعين حال الخطبة]
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً] .
بعدما فرغ المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإمام والخطيب فيما يتعلق بموضوع الخطبة والمقارنة بينها وبين الصلاة، وما يتخيره الخطيب من المواضيع من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بما يتعلق بالمستمعين، ويذكر لنا ابن عباس رضي الله عنهما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق من يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، والتقييد بيوم الجمعة ربما يخرج غير الخطبة في يوم الجمعة كالاستسقاء وكالعيدين، وكالخطب العادية التي هي لأمور اجتماعية.
وبعض العلماء يرى أن كلمة (يوم الجمعة) جاءت لقضية عينٍ، وليس لها مفهوم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب) ، معناه: أن الكلام قبل بدء الإمام بالخطبة ليس ممنوعاً؛ لأن بعض الناس يقول: إذا صعد الإمام المنبر امتنع الكلام، ومعلوم أنه حينما يصعد لا يبدأ بالخطبة، وإنما يسلم على الحاضرين، ثم يقوم المؤذن فيؤذن بين يدي الخطيب، ثم يشرع الخطيب بعد ذلك في خطبته، فبعض الناس كان يقول: يمنع الكلام حينما يصعد الإمام المنبر، كما قالوا: إن مجيء الإمام يمنع الصلاة، وصعوده المنبر يمنع الكلام، والمعنى: أن مجيئه يمنع الصلاة، كما في الحديث: (إذا أتى يوم الجمعة فليصل ما تيسر له، فإذا صعد الإمام المنبر فلينصت) ، فبعضهم يقول: مجيء الإمام يمنع الصلاة، وكان الإمام في المسجد النبوي يخرج من باب ما بينه وبين المنبر إلا خطوات، فمعناه أنه لم يعد هناك وقت لمن يريد أن ينشئ صلاةً من جديد؛ لأنه سيتعارض في صلاته مع بدء الإمام في الخطبة، فإذا كان الأمر كذلك فنعم، فمجيء الإمام يمنع الصلاة أي النافلة.
ومن هنا قال العلماء: على إمام الجمعة وخطيبها إن كان بيته ملاصقاً للمسجد -كما يوجد في بعض المساجد- أن لا يخرج إلى المسجد ولا إلى المصلين إلا بعد أن يؤذن على السطح أو على المنارة الأذان الأول، فيخرج لوقته من أجل أن يصعد إلى المنبر، وإذا كان بعيداً وأراد أن يبادر فإنه يجلس في مكان قريبٍ من المنبر، حتى إذا قام من مكانه عرف المؤذن مكانه وجاء إلى المنبر.
وهنا نص الحديث: (والإمام يخطب) ، فقبل الخطبة لا مانع، ويقول صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (من تكلم والإمام يخطب) ، وهذا عام، ويستثنى من ذلك من تكلم مع الخطيب، فإذا تكلم المتكلم مع الخطيب فليس داخلاً في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويقوم الرجل ويسأل ويجيبه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قالوا: لأن الحث على الإصغاء من أجل أن لا يفوت المتكلم شيء من الخطبة، وهذا إنصات إجباري، وإلا فتلغى جمعته؛ لأنه لو تكلم كل إنسان بكلمة لحصل اللغط، ولما سمعوا الخطبة، ولما كان للخطبة كبير فائدة، فألزم الجميع بالإصغاء، وكلٌ يسكت نفسه، حتى إنك لا تقول لصاحبك: أنصت، فما يجوز لك هذا، فأنصت أنت عن قولك لصحابك أنصت، فلو أن إنساناً قال للثاني: أنصت أنصت.
لقال غيره: أنصت، ويلزم من هذا التسلسل إلى النهاية، فكلٌ شخص عليه أن يسكت نفسه، فإذا ما أنصت الجميع أمكن للخطيب أن يوصل صوته إلى أكثر عدد، وأمكن للجميع أن يستفيدوا من صوته.
أما إذا كان المتحدث مع الإمام فالإمام سيوقف الخطبة، ويتكلم مع من كلمه، فلا يفوته ولا غيره شيء من كلام الخطيب؛ لأنه سيوقف الخطبة حتى يجيبه على سؤاله أو كلامه، ثم يستأنف خطبته.
ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي جاء ودخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا، وشكا له تقطع السبل وجفاف الأراضي ونحو ذلك، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة واستسقى وسقوا، ثم جاء بعد ذلك وقال: ادع الله أن يرفعها عنا.
فدعا الله وسأله، وقد كانوا لم يروا الشمس أسبوعاً، فانقشع السحاب وخرجوا يمشون في الشمس.
وهكذا يأتي الرجل والرسول يخطب فيقول: يا محمد! علمني الإسلام، فيترك الخطبة، وينزل إلى الرجل ويعلمه، ثم يصعد المنبر ويكمل خطبته.
فالكلام مع الخطيب ليس فيه شيء، وكذلك كلام الخطيب مع الحاضرين، فحينما دخل رجل وجعل يتخطى الرقاب، ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة وقال: (اجلس فقد آنيت وآذيت) .
وآخر جاء وجلس، فترك الخطبة وسأله: (أصليت ركعتين -أي: التحية-؟ قال: لا.
قال: قم فاركعهما وتجوز فيهما) .
إذاً: فكلام الإمام مع المصلي أو أحد المصلين مع الإمام خارجٌ عن هذا النهي؛ لأنه لا يفوت مصلحة، بل يأتي بمصلحة جديدة.
وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بما شبه به القرآن الكريم علماء بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فحملوها بالقوة، ولكن لم يحملوها بالفعل، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والأسفار: جمع سفر، وهي الكتب، كما أن الحمار يثقل ظهره ثقل الكتب، ولم يستفد منها بشيء، وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول فالإبل تحمل الماء فوق ظهرها وهي في الصحراء، وتموت من العطش لأن صاحبها ما أعطاها الماء، فالماء على ظهرها ما نفعها، فكذلك علماء بني إسرائيل لما حملوا التوراة ولم يعملوا بها كانت عليهم كمثل الأسفار على ظهر الحمار، وهو أشبه ما يكون من ضرب المثل بالبلادة، فيثقل ظهره بحمله، ولا يستفيد منه شيئاً.
فكذلك الإنسان حمل أمانة المجيء إلى الجمعة وفضلها كما في الحديث: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ومع أنه يحمل هذا العبء وهذه الأمانة ولم ينتفع بها؛ لأنه يتكلم مع صاحبه والإمام يخطب، فبين يديه علم وهو إنما جاء لخيرٍ، فلم يستفد منه، وهذا التشبيه -كما قال أحمد - مثل السوء.
فقد وقع الخلاف في الرجل يهب الهبة ثم يعود فيها، فتناظر أحمد مع الشافعي، فـ الشافعي قال: ليس في ذلك شيء، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه) ، فإن الكلب لا تكليف عليه، فلا حرمة في ذلك.
فقال أحمد: ولكن ليس لنا مثل السوء، فالرسول ضرب مثلاً بالكلب؟ لأنه مثل سوء وتشبيه سيئ، فهل ترضى لنفسك أن تكون كالكلب؟ فاحتج أحمد على الشافعي بهذا.
وكذلك هذا المثال فيه بيان لتقبيح الفعل ونهي عنه.
ثم جاء في تتمة هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) .
فالذي يتكلم كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: اسكت، مرتكب لمنكر، فقوله: اسكت نهي عن منكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القمة من العبادات؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات، ولكن في هذا الوقت صار إنكاره منكراً؛ لأنه تلغى في حقه الجمعة، ويكلف بإعادة صلاة الظهر، فتلغى الجمعة وينوب عنها الظهر، أو تلغى كونها جمعة بما فيها من أجر كما في الحديث: (والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ويبقى إجزاء الفرض وهو حكم الظهر، فيكون كأنه صلى الظهر في يوم السبت أو الخميس، أما فضيلة الجمعة فلا يحصل عليها.
وبعضهم يقول: لا جمعة له ولا صلاة له، وعليه أن يأتي ببديل عنها وهو صلاة الظهر.
والموضع موضع خلاف طويل، ولكن يهمنا مجمل هذا الموضوع.
ثم للعلماء مبحث آخر، وهو إذا كان الإنسان في مؤخرة المسجد فلا يسمع الخطيب ولا يدري ماذا يقول، وكذلك إذا وجد المكبر وتعطل الجهاز فلم يسمع المصلي من الخطيب، أيجوز له أن يتكلم؟ بعضهم يقول: له ذلك إذا كان بتلاوة القرآن، وإذا كان بالتسبيح، وإذا كان بالاستغفار، لأنه ذكر، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩] .
والآخرون يقولون: ليس له ذلك؛ لأن البعيدين إذا اشتغلوا بالتلاوة أو بالذكر ربما ارتفعت أصواتهم فيحصل اللغط على الذي يسمعون.
والصحيح أنه لا يجوز أن يقرأ أو يذكر الله، وأن عليه أن ينصت، وله أجر المستمع في الخطبة إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.