شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن عمر قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم) الحديث متفق عليه] .
هذا الحديث أعتقد أنه كان ترتيبه الطبيعي مع أحاديث الباب قبل قضية العمرى والرقبى، ولكن له علاقة بالعمرى والرقبى التي كانت موجودة في استرجاعها، فـ عمر رضي الله عنه يقول: (حملت على فرس في سبيل الله) بمعنى: أنه وجد إنساناً رغب في الجهاد، ولم يجد ما يبلغه أو ما يركبه فيساعده على القتال، فأعطاه فرساً من عنده يحمله عليه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً} [التوبة:٩٢] ما عندهم شيء يوصلهم، ونعلم قلة الظهر في السابق في غزوة بدر كان الثلاثة والأربعة يتعاقبون على بعير واحد، فلو كانت متوفرة لكان كل واحد ببعيره، فالمسافة ما يقارب مائة وخمسين كيلو، فـ عمر رضي الله عنه فعل ذلك من باب الجهاد في سبيل الله بالنفس وبالمال، ثم نظر إلى فرسه عند من كان حمله عليه، (فأضاعه) ، وكلمة الضياع تطلق على التلاشي، تقول: ضاع الكتاب ضاع القلم ضاع الدفتر يعني: ليس عندك، فيكون في يدك وتقول: ضاع، يقولون: (ضاع) تصرف إلى معنى: أهمله كأنه ضيعه، أي: قلّت الاستفادة منه بسبب إهماله، والفرس يضيّع؟ نعم، مئونة الفرس للجهاد في سبيل الله مئونة شاقة، كما قالت أسماء رضي الله عنها عندما لحقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من طريق الغابة، وهي تحمل النوى على رأسها، فلما عرفها أشفق عليها وأناخ راحلته ليردفها خلفه، تقول: تذكرت غيرة الزبير، فاستحييت وامتنعت، فأخذ مني قفة النوى وحملها عني، ثم قالت: والله ما أرهقني إلا فرس الزبير.
خدمته وعلفه وسقيه، والآن نجد بعض الهواة للخيل يجعلون له خادماً وسايساً ومنظفاً.
يعني: يمكن ثلاثة أشخاص يخدمون الفرس، وهذا للعناية به، والفرس حساس نظيف، يحب النظافة والأناقة والطرب، فيحتاج إلى خدمة، فإذا ما قصر صاحبه فيه أضاعه، والفرس لا يألف المكان غير النظيف، ولا يألف على طول المدة دون أن يغتسل ويغسل، وهكذا كما يقولون: أرقى النباتات النخلة، وأرقى الحيوانات الفرس، فهو أرقى الحيوانات وأذكاها.
نأتي إلى قول عمر: (فأضاعه) لا شك أن عمر لديه الإمكانيات لعلف الفرس ولخدمته، ولما يتناسب مع مهمته، فلما حمل عليه شخصاً الأصل أنه فقير لا يجد ما يركب عليه، إذا أعطي فرساً أصيلة مخدومة ليس بإمكانياته أن يوفيها حقها.
إذاً: ضاعت فعز على عمر أن يرى فرسه المدلل، أو يرى فرسه المخدوم المعلوف المتميز مهملاً مضيعاً ولا يؤدي مهمته، والعرب كانت تعنى بالخيل قبيل المعارك بالتضمير.
أي: يضمرها، كما عندنا في السباق: (سابق بين الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحفياء، وبين الخيل غير المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق) فالمضمرة شيء وغير المضمرة شيء آخر، وتضمير الخيل: هو أن يعطى العلف متى ما شاء، دائماً يأكل حتى يشبع ببطر، ثم قبل المعركة يؤخذ هذا الفرس ويجلل بالثياب المتينة الصوف، ثم يوضع في غرفة قليلة التهوية؛ ليعرق بلباسه عليه وضيق الغرفة، فيخرج من ضخامة بدنه السيولة، كما يقولون: الماء من داخل الجسم في العرق الذي يخرج ويفرزه، فيحتفظ بقوة عضلاته، ويتخلى عن فضلات جسمه فيما يخرج من أملاح ومياه في العرق.
فهذه خيل مضمرة.
يعني: صارت ضامرة بعدما كانت سمينة متينة.
أي: صارت نحيفة مع الاحتفاظ بقوتها، فأهل الخيل يعتنون بها إلى حد بعيد، حتى في بعض ضواحي الشرقية، عندهم للفرس الحرة سجل تاريخ، كشهادة ميلاد الإنسان، متى ولدت؟ ومتى لقحت؟ ومن الذي لقحها؟ خيل من عند مِن؟ وأمها من؟ وهكذا يؤرخون للفرس تأريخهم للولد، بل الأولاد في البادية ليس عندهم شهادة ميلاد، لكن يحفظون تاريخ ميلاد أولادهم، أما الفرس فيكتبون؛ حتى إذا أرادوا بيعها ينتقل معها سجلها.
وهكذا عناية العرب بالخيل، فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يتدارك فرسه الذي يعرف أصالته، ولكن هذه الخصيصة التي أكرم بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم مدرسة لنا ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحكام في الصغيرة والكبيرة، هذا عمر يريد أن يشتري فرساً، وما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟ قال: لا.
لابد أن أذهب فأسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أني كنت قد حملت عليها في سبيل الله، هل في شرائي إياها بعد ذلك فيه شيء؟ وهذه النعمة الكبرى التي امتن الله بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قضية النعمان وأمه وأبيه بشير بن سعد في المنحة، قالت: لا.
اذهب وأشهد عليه رسول الله، وهكذا كانوا يدخلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشورة في الاستئذان في الفتوى، وكان بين ظهرانيهم يجيبهم عن كل ما سألوه عنه، وتجمع ذلك كله وانتقل إلينا تشريعاً للأمة، وأصبح كل من منح ولده دون بقية الأولاد هو بعينه بشير، وأصبح كل من تصدق بشيء ثم رآه مضيعاً وأراد أن يشتريه هو عمر بن الخطاب في فرسه، وتصبح هذه قواعد عامة وتشريعات للأمة في تلك الأحداث الصغيرة.
لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال له؟ قال: (لا.
تبتعه) وباع وابتاع وشرى واشترى، كلها ألفاظ تأتي بمعنى البيع والشراء.
(باع) بمعنى: أعطى السلعة، ابتاع بمعنى: أخذها، شرى كذلك، واشترى، كلاهما بمعنى الإعطاء والأخذ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:٢٠] أي: باعوه.
اشتراه: يعني: أخذه، (لا تأخذه لا تشتره لا تسترده وإن أعطاكه بدرهم) ، وما هذا يا رسول الله؟ هل هناك من يبيع فرساً بدرهم؟ ممكن هذا؟ عمر عظم في نفسه ضياع فرسه الذي يعرف أصالته فنفسه متعلقة به.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أعطاكه بدرهم) أي: ولو باعك إياه بأقل الأثمان، ليحط من تعلق عمر به، فيقابل شدة تعلق عمر بفرسه بقلة الثمن الذي يمكن أن يبيعه به صاحبه، وهذا أسلوب نبوي كريم يقابل المبالغة بنظيرها، (لا يفل الحديد إلا الحديد) .
وهنا لعل إنساناً يكون عنده فضول ويتساءل: هو ما قال له: أعطني الفرس الذي أعطيتك إياه فضيعته، وإنما قال: أشتريه، وذاك الذي أعطي الفرس وضيعه من حقه أن يبيعه في السوق لأي إنسان؛ لأنه ملكه، فإذا كان من حقه أن يبيعه، ومن حق أي إنسان أن يشتريه، فما الذي يمنع عمر وهو صاحبه الأول بأن يكون هو المشتري إذا جئنا إلى المعادلة العقلية؟ نجد أنه لا فرق بين عمر في كونه يشتريه ممن هو في يده وبين غيره؛ لأنه بيع وشراء، قالوا: لا، هناك فرق؛ كون عمر هو الذي أعطى هذا الشخص وحمله عليه، سيجد صاحب الفرس الجديد أن لـ عمر عليه فضل، فعندما يقول صاحب الفرس الذي بيده: بمائة، فيقول عمر: لا، بخمسين، ماذا يقول الذي بيده الفرس؟ يماكس مع عمر، أما لسان حال عمر: أنا ما برحت أعطيتك إياه، فيضطر عند البيع أن يجامل عمر، وأن يتنازل عن بعض حقه، وهذا ليس من الإنصاف، لكن لو جاء إنسان آخر وقال: بتسعة وتسعين، قال: لا.
فله الحق في ذلك؛ لأن الذي يسوم ليس له علاقة في هذه العين التي تباع.
الشيء الثاني وهو الأهم: أن هذا الشخص لو باع الفرس لزيد، وأراد عمر أن يشتريه من زيد قيل له: لا.
لأن الأصل أنه منك، والمعنى الأساسي في هذا الموضوع: ما الذي جعل عمر يتأسف على ضياع الفرس؟ ارتباطه به في الماضي.
إذاً: حينما حمل عليه، هل انقطعت علاقته حساً ومعنى ورغبة ورهبة عن الفرس أم حمله وعينه تتطلع فيه؟ حمله وكل ما مر به نظر إليه، حمل عليه وكلما تذكره تذكر ماضيه.
إذاً: تعلق نفس عمر بالفرس، وهذا يشير كونه تصدق به؛ لأن المتصدق يتصدق لوجه الله، فينبغي أن يخرج الصدقة من يده ومن قلبه وماله، ولا تكون لها أي علاقة بالمتصدق، فيكون أخرجها من ملكه، وفكره، وحسبانه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقطع على عمر خط الرجعة في أن يفكر أنه كان له فرس لتمضي الهبة لوجه الله خالصة، ويجب أن تنقطع العلائق كلها من هذه الصدقة التي تصدق بها لوجه الله، وبقية الحديث هو الذي جاء فيه: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب) إلى آخر الحديث.
وهنا يسأل بعض العلماء يقول: (العائد) وهل عمر عاد في هبته أم اشتراها؟ اشتراها، ونتيجة الشراء، فإنه لو اشترى الفرس سيكون عاد إليه بأي وسيلة، حتى لو جاء يهديه إليك هدية لا تقبلها؛ لأنه خرج من ذمتك ويدك، اللهم إلا الأمور التي ليست عن طلب ولا عن رغبة، وجرت عادة الناس فيها، كما يذكرون في باب الزكاة والصدقات، جاء رمضان وجاء وقت زكاة الفطرة وأخرجت زكاة فطرتك لجارك، ثم جئت يوم العيد تزور جارك، فقدم لك حسب العادة وحسب ما يقدم للآخرين (الدلة) والتمر، فجئت أنت وصب لك القهوة وقدم إليك التمر، فإذا به تمر زكاتك الذي أعطيته بالأمس، هل تأكل منه بحكم الضيافة أو تقول: لا، العائد في هبته؟ تأكل منه، وهل عندما تأكل منه يكون هذا عود في صدقتك أم قبول إكرام جارك إليك، سواء كان بتمرك أم بتمر غيرك، فحينئذ لا تكون عائداً في صدقتك.