[بيان أن تقبيل الحجر ليس لذاته وإنما للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم]
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عمر أنه قبل الحجر وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
متفق عليه] .
هذه القضية قد أشرنا إليها فيما تقدم، فقلنا: إن الأصنام كانت مثبتة على جدران الكعبة بالرصاص، ولما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً كان يشير إلى الصنم بقضيب في يده، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا انكب على وجهه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر على قفاه، وما كان يلمسه بالسوط ولكن بمجرد الإشارة.
ففي هذا معجزة كبرى، وقد يقال: أليس هذا القضيب كان في يده قبل فتح مكة، ألم يكن يصلي حول الكعبة وظلت الأصنام عليها، فلماذا لم يسلط عليها هذا القضيب؟ الجواب: أنه لم يكن قد حان أوان ذلك، ولهذا من الحكمة للداعية أن ينظر في عواقب الأمور، وأن لا يتعجل الأمور قبل أوانها، والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه.
إذاً: عمر رأى أنه قبل سنين كانت الأصنام معلقة، فخاف على العامة أو الدهماء، أو الذين لم يدركوا ذلك، أن يقع في أذهانهم أن في تقبيل الحجر تكريماً للحجر لذاته، فقال لهم: لا، الحجر لذاته لا ضر فيه ولا نفع، فهو حجر وجماد، ولكن قبّله لأمر آخر، فقال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) إذاً: عمر قبل الحجر امتثالاً واقتداءً برسول الله، علم الحكمة أو لم يعلم، وعلى هذا فإن الواجب على كل مسلم، فيما لم تنكشف له الحكمة فيه أن يسلم وأن يمتثل الأمر.
وكذلك إذا انكشفت له بعض الجوانب وخفي عليه الكثير منها فإنه يسلم ويمتثل.
إذاً: إذا جاء الشرع ثابتاً واضح الدلالة، فلا قول للعقل في قبول التشريع، ولا يجوز أن نعرض الشرع على عقولنا، بل نعرض عقولنا على الشرع، فإذا ما ثبت التشريع بطريق سليم صحيح، وكان المعنى واضحاً، والنص صريحاً فلا مكان للرأي ولا محل للاجتهاد فيه، كما يقول العسكريون في تلقي الأمر: نفذ ثم اسأل، أي: نفذ أولاً ما أمرت به، وقد يكون الأمر غير موافق لعقلك وما تدري لماذا أمرك القائد بهذا؟ فلا ترفض الأمر، وتقول: لماذا؟ فإنك قد تفوت الوقت وتضيع الفرصة، وإنما نفذ ما أمرت به ثم اذهب واسأل ما بدا لك، وهكذا الشرع، ولهذا قال عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا -هذا محل التشريع- أني رأيت) ويا نعم ما رأى! رأى عمل رسول الله مباشرة ومشافهة؛ لأنهم كانوا يتلقون عنه مباشرة، لا بنقل ينقل، ولا برواية تروى، بل رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، فامتثلوا أوامره طواعية: (لولا أني رأيته يقبلك ما قبلتك) .
في هذا الموطن يذكر العلماء ومنهم الصنعاني شارح هذا الكتاب أن هناك رواية فيها: أن علياً سمع ذلك من عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه بحق) (وقد جاءت فيه أحاديث منها: (هو يمين الله في أرضه)) فقال عمر: (من أين يا علي؟! قال: من كتاب الله، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢] ، فكتب ذلك في رق، وأودع هذا الرق الحجر، وكان له فم ولسان وعينان) ونحن نقول: إن هذه الأشياء يتوقف في سماعها على صحة إسنادها، وصراحة مدلولها، ونحن لا نستبعد هذا كما لا نستبعد كيف أخذ الله الذرية بعضها من بعض إلى آخر واحد من آدم، وكيف اجتمع العالم كله في عالم الذر بعرفة؟! أنا وأنت ومن سيأتي بعدنا أرواحنا اجتمعت في عالم الذر؟! ونحن لا ندرك هذا، ولكنه عالم آخر يعلمه الله سبحانه وتعالى.
فإذا جاءت القضايا إلى القدرة الإلهية فاسترح؛ لأنه لا يستعصي على القدرة الإلهية شيء.
إذاً: عمر ينبه بهذا المعنى على أن المسلمين إنما يقبلون الحجر لا لذات الحجر ولا لمعنى فيه، ولكن امتثالاً وطاعة واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الطواف حول الكعبة ليس لأنها زمردة أو ياقوتة، ولو كانت زمردة أو ياقوته، أو أغلى جوهر في العالم فليس الطواف حولها لذاتها، فكيف وهي بنيَّة من حجارة وهذه الحجارة موجودة في مكة، ولكن نطوف حولها لقداستها، ولتعظيمها، فقد عني به المولى سبحانه فقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:١٢٧] .
وقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:١٢٥] ونحن نطوف أيضاً امتثالاً لأمر الله في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩] .