وقد ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في الشيء ويريده ولكنه يتركه مراعاة لمصلحة الأمة، سواء كان خوفاً من مغبة ذلك وما يترتب عليه، أو كان رفعاً للحرج وللمشقة، ومن ذلك قوله في السواك:(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، فالأمر يقتضي الوجوب والإلزام، فلم يأمرهم أمر إيجاب وإلزام ولكن أمر توجيه وإرشاد.
وكذلك من شفقته بالأمة عليه الصلاة والسلام أنه لما صلى بعض الناس بصلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولم يعلم بهم، وفي الليلة الثانية والثالثة كثر الناس حتى امتلأ المسجد بهم، فصلوا العشاء ولم يخرجوا، وبقوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يخرج في الليالي السابقة ليصلي فيصلون بصلاته قيام الليل، فلما وجد المسجد مليئاً بالناس سأل عائشة فقال:(يا عائشة! ما بال الناس مجتمعون؟! ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى صلوها، ولكن ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى بصلاتك من قبلهم في الليالي الماضية، فقال: ارفعي حصيرتي، ولم يخرج تلك الليلة، ولما استبطئوا خروجه أخذوا الحصباء يرمون بها باب البيت -لينبهوه صلوات الله وسلامه عليه للخروج إليهم وكأنهم يقولون: نحن في انتظارك- فلم يخرج إلا في صلاة الفجر وقال: أما إنه لم يخف عليّ صنيعكم البارحة -أي: أنا بحمد الله لم أبت غافلاً ولم أكن نائماً، بل كنت أعلم بوجودكم- ولكن خشيت أن أخرج إليكم فأصلي بكم فتكتب عليكم فلا تستطيعوها) .
فكان عدم خروجه إليهم مع أن هذا من في فعل الخير، حيث يصلون في مسجد رسول الله مقتدين برسول الله في شهر مبارك، ولكن لرأفة النبي بالأمة وشفقته عليهم خشي أن يخرج فيكتبها الله عليهم، وتصبح واجبة عليهم في الليل، كما أن الصيام واجب عليهم في النهار، فتلحقهم بذلك مشقة، وإذا لحقتهم مشقة فما كل الناس يستطيع أن يفعل ذلك.
ولما عرج به صلى الله عليه وسلم وفرض الله عليه خمسين صلاة، مر بموسى عليه السلام وهو في السماء السادسة، فقال:(ماذا فرض الله عليك؟ قال: فرض عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك وسله التخفيف، فالتفت إلى جبريل يستشيره، فقال: نعم، فرجع به جبريل إلى ربه، وسأله التخفيف، فخفف عنه خمساً، ونزل إلى موسى، ولم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، وموسى يقول له: سله التخفيف، فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك -وهم أشد من أمتك أبداناً وقوة- بأقل من ذلك، فلم يستطيعوا لهذا، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فحينما انتهت إلى خمس، قال: لقد استحييت من كثرة مراجعتي ربي، فقال المولى له: يا محمد! هي خمس بالعدد وخمسون في الأجر) ؛ أي: لأن الحسنة بعشر أمثالها.
الشاهد أن موسى نصحه وقال له: لقد بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من هذا فلم يستطيعوا، إذاً: التخفيف على الأمة هو الأولى، وكان من سنته ومنهجه صلى الله عليه وسلم -كما تقول أم المؤمنين عائشة - أنه ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي الحديث:(يسروا ولا تعسروا) .