[هل الأفضل الصلاة في الصف الأول من المسجد النبوي أم في الروضة؟]
وهنا بحث آخر: حينما كان في العهد الأول كانت الروضة مع الصف الأول على خط مستقيم، ولما حصلت الزيادة من جهة القبلة انتقل المحراب إلى القبلة، وأصبح هناك أربعة أو خمسة صفوف خارجة عن الروضة إلى الجنوب، فهل نقدم الأحاديث الواردة في فضل الصف الأول كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في الصف الأول لاستهموا عليه) (لتجالدوا عليه) (لأتوه ولو حبواً) وقوله: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول فالأول) وقوله: (خير صفوف الرجال أولها) فهذه كلها آثار في فضل الصف الأول.
وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصف الأول مع الروضة في ميسرة المسجد؛ لأن الروضة في الميسرة ما بين المنبر وما بين الحجرة، فكان يمكن للإنسان أن يجمع بين الصف الأول وبين الروضة، فهل يا ترى! يحرص الإنسان الآن على إيقاع الصلاة في الروضة لفضيلتها أو يحرص على الصلاة في الصف الأول لفضيلته؟ ونجد أيضاً: أن مع الأحاديث التي جاءت في فضل الصف الأول أحاديث أخرى جاءت في فضل ميمنة الصف، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) وقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم امتلاء ميامن الصفوف وخلو مياسرها نظراً للحث على ميامن الصف، نقول: في العهد النبوي كان الصف الأول والروضة يجتمعان في الميسرة، والصف الثاني والثالث والرابع والخامس يجتمعان في الميسرة مع الروضة، ولكن ميامن الصفوف من الصف الأول فما وراءه ليس فيها روضة، فننظر في ذلك الوقت أي الجانبين كانوا يرجحون الروضة على الميمنة أم الميمنة على الروضة؟ قلنا: بأنه يمكن أن يجمع الإنسان بين الصف الأول والروضة، ولكن لا يمكن أن يجمع بين الميمنة والروضة، فإما أن يكون في الروضة وإما في الميمنة، فنجد عند ابن ماجة: أنهم اشتكوا وقالوا: يا رسول الله! خلت ميسرة المسجد، أي: صارت خالية؛ لأن الناس صاروا يتتبعون الميامن؛ لأن ما في الميامن من الآثار لا تعادلها آثار الروضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أعمر ميسرة المسجد فله كفلان من الأجر) إذاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم قارنوا بين الروضة وبين الصف الأول، وبين الروضة والميمنة، فقدموا ورجحوا ميمنة الصف على ميسرته ولو في الروضة، فإذا كان الأمر كذلك وقد انتقل الصف الأول عن مستوى الروضة إلى الأمام، فهل نقدم الصف الأول أو نقدم الروضة؟ الصحابة قدموا الميمنة على الروضة، والصف الأول أفضل من الميمنة في الثاني أو الثالث، فإذا كانوا قد قدموا الميامن على الروضة، فمن باب أولى تقديم الصف الأول على الروضة، ولهذا يقول النووي وغيره: إذا كنت تصلي مأموماً تابعاً للإمام فصل حيث انتهى بك الصف، في الروضة في الميمنة أو في الميسرة، في المؤخرة أو في المقدمة، فحيث انتهى بك الصف فصل، وإن كنت تصلي منفرداً أو متنفلاً فتحر الروضة؛ لأن النافلة ليس فيها لا صف أول ولا ميمنة، ولا شك أن موضع الروضة أولى من غيره؛ لأنه قد جاءت فيه تلك الخصيصة.
ثم جاء بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا كله، وبعد الزيادات المتكررة والمتعددة من الأمويين والعباسيين وغيرهم، وقال: عثمان رضي الله عنه تقدم وصلى في المحراب الذي في الزيادة الأمامية، حينما وقعت الزيادة من جهة القبلة، وترك الروضة خلفه، وعلي رضي الله تعالى عنه كذلك، وجماعة من الصحابة في عهد الخليفتين الراشدين عثمان وعلي كانوا يتبعونهما في الصفوف الأول مما يلي القبلة، ووراءهم الروضة بعدة صفوف، فيقول ابن تيمية رحمه الله: ليس من المعقول أن الخلفاء الراشدين يتركون الأفضل ويذهبون إلى المفضول، لولا أن الصلاة في الصف الأول على ما هو عليه خارج الروضة أفضل لما داوموا على الصلاة فيه، ولرجعوا إلى الروضة محل مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: على هذا نقول كما قال النووي رحمه الله: الروضة لها فضيلة ذاتية مكانية، والصف الأول وصف ذاتي للصلاة، والنووي عقد فصلاً في أيهما أفضل الفضيلة الذاتية أو الفضيلة النسبية؟ والفضيلة الذاتية هي ما يكون في عين الفاضل، والفضيلة النسبية هي بالنسبة لشيء خارج عنه، ومثل لهذا: بالصلاة في المسجد النبوي منفرداً وقال: إذا فاتتك الجماعة وصليتها منفرداً بالمسجد النبوي فهي بألف، فإذا كنت في طريقك من مسكنك إلى المسجد النبوي، ومررت بمسجد تقام فيه الجماعة لهذه الفريضة، فإن صليت معهم أدركت الجماعة، وإن تركتهم ومضيت إلى المسجد النبوي فاتتك الجماعة فيه، فأنت إن صليت مع الجماعة في مسجد الطريق صلاة عادية فهي بسبع وعشرين درجة، وإن مضيت إلى المسجد النبوي وصليت فيه فهي بألف صلاة، فأيهما أولى: فضيلة الألف من أجل المسجد، أو فضيلة السبع والعشرين درجة من أجل الصلاة؟ ثم قال: إن فضيلة الجماعة فضيلة ذاتية؛ لأنها تتعلق بهيئة الصلاة وكيفية أدائها، وأما مضاعفة الألف فهي للبقعة، إذاً: فهي فضيلة إضافية، أي: أنك اكتسبت الفضيلة في صلاتك من أجل المكان الذي صليت فيه لا من أجل الصلاة، فصلاتك في هذا المكان الفاضل ناقصة عن صلاتك في ذاك المسجد العادي؛ لأن صلاتك هناك كاملة لكونها جماعة.
وكذلك قال في فضل الطواف بالبيت: إذا طفت قرب البيت فسيكون الشوط مثلاً مائتي خطوة، وإذا ابتعدت عن المكان إلى وراء زمزم فسيكون الشوط خمسمائة خطوة، وكل خطوة بحسناتها، فإذا كان طوافك المتسع جداً فيه زيادة حسنات لكثرة الخطوات فإن طوافك بجوار البيت سيكون أقل حسنات؛ لأنه أقل خطوات، وإذا نظرنا إلى أصل الطواف سنجد أن الطواف مختص بالبيت، إذاً: هل الأولى في الطواف أن تقترب من البيت الذي تطوف حوله أو أن تبتعد ولو كثرت الخطى؟ الجواب: كلما اقتربت فهو أولى لأنك تطوف به، وما دمت تطوف به فالصق به، وأما كونك تبعد الدائرة بعيداً وتأخذ الشوط عن سبعة فصحيح أنك تعبت وأن خطواتك أكثر ولكن الذي يطوف بجوار الكعبة أفضل منك؛ لأن الطواف بجوار الكعبة ذاتي في عين الطواف، والطواف من بعيد كثرة الحسنات فيه إضافية لكثرة الخطى.
إذاً: نرجع إلى تفضيل الصلاة بين الصف الأول وبين الروضة فنقول: الصف الأول ذاتي بالنسبة للصلاة؛ لأنه جزء من الجماعة، والروضة نسبية للصلاة؛ لأنها بقعة، فيكون الوصف الذاتي وهو صلاتك في الصفوف الأول أفضل من صلاتك في الروضة؛ لأن الفضيلة في الروضة تدركها بالنسبة للمكان وليس لعين الصلاة، وعلى هذا ينبغي على الإنسان فيما يتعلق بالجماعة أن يحاول الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيتم الصف الأول فالأول، ويتم ميامن الصفوف كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) فيكون التحري للصف الأول أولى من التحري للروضة.
وهناك صور نشاهدها من بعض الجماعات منها: أن منهم من يأتي متأخراً قبل أن تقام الصلاة بلحظات، فيتخطى رقاب الناس من أجل أن يدرك المسجد الأول الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الذي كان في عهد رسول الله بني على مرحلتين: المسجد الأول الذي كان من جذوع النخل والجريد، وهو الذي على السواري التي فيه خطوط بالطول، وفي وسط الخطوط مثل الوردة، فهذه الأعمدة التي فيها تلك الخطوط هي حدود المسجد النبوي الأول، يتعدى عن المنبر بعمود واحد، ويرجع إلى الشمال حوالي سبعة أعمدة.
والبناء الثاني كان بعد العودة من خيبر، فعند أن ضاق المسجد الأول على الناس وسعه صلى الله عليه وسلم وبناه بالحجر والطين، وجعل السقف من جذوع النخل، ولما بنوه البناية العثمانية الموجودة حالياً كتبوا على رءوس الأعمدة التي هي نهاية المسجد النبوي في السابق: هذا حد المسجد النبوي، وكان في البناء الأول سبعين ذراعاً في سبعين، ثم أصبح في التوسعة الثانية: مائة ذراع في مائة ذراع.
فيأتي بعض الناس من الباب إلى المسجد الأول هو حد مسجد النبي، يعني: مسافة مائتين وخمسين متراً، وكم من صف يتخطى فيه رءوس الناس؟ وهذا عمل مؤذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يوم الجمعة متأخراً، وأخذ يتخطى رقاب الناس ليدنو من المنبر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال له: (اجلس فقد آنيت وآذيت) آنيت: من الأين وهو الوقت أي: تأخرت، وآذيت لتخطيك رقاب الناس؛ لأن هذا لا ينبغي، فلا ينبغي للإخوان الذين لا يزالون يعتقدون أن الفضيلة مختصة بالمسجد الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يتأخروا ثم يحاولون الوصول إليه على رقاب الناس، فنقول لمن يتخطى رقاب الناس: إذا كنت تريد المسجد الأول وتريد الروضة فاحضر مبكراً، والأبواب مفتحة أمامك، لا أن تتكئ في بيتك وتشتغل بما يهمك فإذا سمعت النداء جئت مسرعاً وأتيت تتخطى الرقاب فإن هذا لا يجوز لك، وهذا من الذي ينبغي مراعاته فيما يتعلق بآدب المسجد النبوي والصلاة فيه.