[المكان الذي تؤخذ فيه زكاة الأنعام]
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم) رواه أحمد.
ولـ أبي داود أيضاً: (لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) ] .
يبين المؤلف رحمه الله بعدما انتهى من أنصباء زكاة بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كيف نأخذها؟ وكيف يؤدونها؟ فقال: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم في دورهم) ، فمثلاً: العاصمة هي المدينة، وهناك منطقة حايل، والرياض، وجيزان، وهناك مناطق في أطراف الجزيرة، فهل يجب على أصحاب الأموال في أي مكان أن يسوقوا زكاة أموالهم إلى المدينة ويسلموها للمسئول عنها، أم أن ولي الأمر في المدينة يبعث إلى تلك الأقطار النائية والأماكن البعيدة من يستلم منهم ويأتي بها إلى المدينة؟ أعتقد أنه لو كلف المسلمون في أماكنهم أن يأتوا بزكاة أموالهم إلى المدينة لكانت مشقة عظيمة، فمن كان عنده خمس من الإبل فيحتاج أن يأتي بشاة من جيزان إلى المدينة! وهذه مشقة كبيرة، ولكن تؤخذ زكاتهم على مياههم، يأخذها العامل.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث العمال إلى أماكن تواجد بهيمة الأنعام، فيقف عند المياه؛ لأن أصحاب بهيمة الأنعام سيوردونها الماء، ليس لازماً أن يتتبعهم في خيامهم ومبيتهم، فمثلاً إذا جاء إلى منطقة، ولنقدر -مثلاً- منطقة العوالي، أو منطقة قباء، أو غيرها، وهناك الآبار أو الغدران أو العيون التي هي موارد الإبل والبقر والغنم للسقي، فيأتي إلى ماء بني فلان، وهناك ينتظر: فإذا جاء الراعي بإبل فيعدها، ثم يأخذ الواجب فيها.
وعامل الزكاة لا يأتي منفرداً، بل معه من يساعده، وهم الذين يسوقون الأنعام التي تجمع، ومعه الكتاب الذين يحصون ويعدون، ومعه من يخدمه.
فإذا أخذ من هذا بنت مخاض، وأخذ من ذاك بنت لبون، أصبح عنده مراح من الإبل باسم الصدقة، ويتولى سوقها ورعايتها من معه من الأعوان.
إذاً: أخذ زكاة الأموال تكون من أصحابها على مياهها، ولم يكلفهم الذهاب والمجيء بها إلى المدينة؛ رفقاً بأصحاب الأموال.
وهنا يذكر العلماء حق هذا العامل، وواجب أصحاب الأموال في التعامل معه، فنجد التعليم الإسلامي يتناول العامل وصاحب المال، وكل منهما يوقفه عند الواجب الذي عليه، فتقدم لنا في قضية معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم!) فيوصي العامل بأن يكون عادلاً رفيقاً، ولا يظلم أصحاب الأموال بأن يأخذ كرائم أموالهم، ولا يأخذ التيس إلا أن يرضى صاحبه، وكان فيه مصلحة، ولا يأخذه رغماً عن صاحب الغنم؛ لأنه قد لا يكون في الغنم إلا هذا التيس فيعطلها.
إذاً: الشارع الحكيم أوصى العامل بالإرفاق بأصحاب الأموال، ومن جانب آخر أوصى أصحاب الأموال كما جاء في بعض الروايات: (إنه قد يأتيكم من تكرهونهم) وهم العمال الذين يأخذون الأموال، فالناس لا يريدونهم أن يأتوا ولكن يأتونهم غصباً عنهم، إلا المؤمن فهو يدفع ذلك طواعية لوجه الله، فقال: (يأتيكم من تكرهونهم فأرضوهم) أي: لا يذهبون عنكم إلا وهم راضون، ومتى ترضونهم؟ إذا كنتم معهم أمناء في العدد، فلا تخفون شيئاً من الغنم وراء الحجر أو وراء الشجر، ولا تدعون الخلطة بغير الخلطة، ولا تدعون الفرقة بغير فرقة خشية الصدقة -كما تقدم- فأوصى أصحاب الأموال أن يحسنوا معاملة العمال وأن يكسبوا رضاهم.
جاء بعض الأشخاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! يأتينا عمال فيظلموننا، قال: أرضوهم، وما تحمل فإثمه عليه، لكم أجركم وعليهم وزرهم) وهنا يقال: إذا علمت أن العامل ظالم، فالأمر بين حالتين: إما أن يقع اجتهاد من العامل في أداء الأمانة، فهو مصدق ومقدم.
وإما أن يكون معتدياً اعتداء صريحاً، كأن جاء إلى كرائم الأموال وأخذها، أو جاء وعدها فوجدها خمساً وعشرين، فقال: هذه ثلاثون، هذه خمسة وثلاثون.
فزاد على صاحب المال فيما يتعلق بما يجب عليه، وهذا قل أن يكون.
وتقدمت لنا قصة الرجل الذي وجد العامل عنده خمساً وعشرين من الإبل، وقال له: زكاة مالك بنت مخاض.
فقال الرجل: بنت مخاض لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب، ولكن هذه ناقة كوماء فخذها.
فأراد صاحب المال أن يدفع أكثر مما عليه، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها؛ لأنها لم تجب، وأنا ممنوع من الظلم ومن التعدي، فإن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فخذ بها إليه.
فيأتي الرجل ويعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم فيسأله: (أتعطيها عن طيب نفس؟ قال: بلى يا رسول الله.
فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك) فعاش إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة إبله.
فهنا: العامل يمتنع أن يأخذ أكثر مما وجب عليه، وهذا هو المظنون في الأمناء الذين يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقع أيضاً لـ ابن رواحة مع أهل خيبر لما ذهب ليخرص عليهم نخيلهم، فجمعوا له من حلي النساء رشوة، فسبهم وقال: إن هذا سحت، والله لقد جئت من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، وما حب رسول الله ولا بغضكم بحاملي على أن أحيف عليكم، إني قاسم، فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فدعوا.
يعني: إن شئتم أخذتم النخيل وسلمتم ما وجب عليكم فيما أقسمه، وإن شئتم رفعتم أيديكم وأنا أعطيكم ما قسمت، قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
الذي يهمنا أن الصدقة في بهيمة الأنعام تؤخذ على مياهها، أي: موردها من الماء، وفي مواطنها، ولا يكلفون المجيء بها إلى المدينة أو إلى عاصمة الدولة التي تقوم بجمع الزكاة؛ لأن في هذا مشقة عليهم.