[حكم ركوب البحر للتجارة في الحاضر والماضي]
[ولا تحمله في بحر] .
هنا نظر للمجتهد، ويجب على العلماء اتخاذ الاجتهاد والاستنباط والنظر، هل هذا الشرط يمكن أن يعمل به في الوقت الحاضر أم لا؟ لا تتسرع وتقول: نعم أو لا، يجب على طالب العلم الآن وعلى العلماء والهيئات العلمية التي تعقد الندوات أو المؤتمرات إذا نظرت في مثل هذا أن تكون ذا بصيرة هل استخدام البحر في ذاك الوقت هو عين استخدام البحر في هذا الوقت؟ هناك نصوص سابقة لمن كان ينهى عن ركوب البحر للحج لأنه مجازفة وخطورة، ونحن نقول: إن ركوب البحر ترجع طبيعته إلى الآلة التي تركب، فإنسان يأتي من السودان إلى جدة يعبر البحر عرضاً، بواسطة لنش، أو لنش شراعي، هل هو كمثل من يأتي في باخرة تمخر العباب؟ لا، يمكن هذا اللنش الصغير يأتيه سمك القرش ويأخذه من النصف، لكن من في باخرة كبيرة ينام ويلعب، وحتى لو أراد السباحة فهناك حوض سباحة في الباخرة.
مدينة تتحرك، فهل خطورة البحر في ذاك التاريخ مع السفن الشراعية موجودة الآن مع البواخر الآلية التي تمشي بطاقة البخار أو الاحتراق الداخلي بالديزل أو غيرها، وهذا الجرم الكبير كالأعلام، أعتقد أن الخطورة ليست واحدة، والوضع يختلف، فإذا قال: لا تضع مالي في بحر، نقول: إن كنت تخاف عليه من السفينة الشراعية التي يقف عنها الهواء وتغرق، أم من القرصنة في البحار فهذا أمر انتهى.
وهذه كانت مهمة البريطانيين، بريطانيا قبل أن تصبح دولة متحضرة كانوا قراصنة في البحار يقطعون الطريق على السفن، فإذا كان الطريق فيه القراصنة يأخذون البواخر قهراً ويسلبون ما فيها.
فله حق، وإذا كانت هناك تأمينات بحرية؛ لأن الحاصل الآن: أنه لا تبحر سفينة من ميناء ببضاعة إلا وهي مؤمن عليها، وكيف يؤمن عليها؟ يقولون: أول عقود التأمين في العالم التأمين البحري، يأتي التاجر ويشتري السلعة من لندن، وتريد الجهة المصدرة تصدير البضاعة إلى جدة؛ لأن الشرط في عقد البيع: إما تسليم محلي أو تسليم إلى ميناء المشتري، فتتعهد الجهة البائعة بإيصال السلعة إلى ميناء المشتري، فإذا كان التوصيل على حساب المشتري فشركة التأمين البحري مهمتها أن تأخذ عقد الشراء وتذهب إلى المصنع الذي باع وتتابع تعبئة السلع في الصناديق، وهل هذه التعبئة سليمة أو ليست سليمة، فإن كانت البضاعة من زجاج لابد لها من تغليف ومحافظة.
فتقف وتشرف على تعبئتها تعبئةً سليمة، فإذا انتهت من التعبئة وتريد أن تشحنها في الباخرة المبحرة إلى جدة، تنظر أي البواخر التي اختارها المصنع، وهل هي جديدة قوية تعبر المحيطات أم هي مخلخلة ليست قوية معرضة للانفصال أو الانكسار أو الانشطار، فإن كانت صالحة سمحت شركة التأمين بتعبئة البضاعة المعبأة من المصنع فيها، ثم تنظر متى ستبحر؟ وتذهب شركة التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل عن هذا اليوم؛ فإن قالوا: والله عندنا أخبار عن عاصفة قادمة من الجهة الفلانية وسرعتها كذا كما هو في النشرة الإخبارية، وليس كما يظن بعض الناس أن النشرة الجوية تكهنات، لا، بل هي مبنية حقائق ونظريات علمية واقعية.
فمثلاً: المرصد الذي في جدة والذي في الهند ودونهما مراصد ما بين دلهي إلى جدة، فالمرصد الذي يلي الهند مباشرة يتلقى من المرصد الهندي أنه مرت بي عاصفة ورياح هوجاء سرعتها في الدقيقة كذا، وإذا استمرت في اتجاهها سوف تصلكم بعد كذا، فتصلهم على حسب التقدير، فيتصل هذا المركز بالذي بعده وهكذا إلى جدة مرت بنا عاصفة كذا سرعتها كذا، وإذا استمرت على هذا النحو سوف تصلكم وقت كذا، وهكذا يتناقلون الأخبار لا سلكياً، وعندما تنتهي إلى ما قبل جدة مركز جدة يعلن عنها.
إذاً: النشرة الجوية ليست تكهناً، وإنما هي عبارة تناقل للمعلومات من المراكز بعضها إلى بعض، فيكون ذلك تحذير للذين يعملون في البحر حركة البحر هائج حالة البحر هادئ والموج فيه كذا، على أي أساس هو في مكتبه من أجل الإخباريات من المراكز التي مرت بها العاصفة وهي في طريقها إليه.
فتأتي شركات التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل ماذا عندكم في طريق الإبحار من هنا إلى السعودية، فيعطونهم الأخبار، فإن وجدوا عواصف في هذا اليوم أو في ما بعده لمدة وصولها إلى جدة أوقفوا الرحلة، وإن وجدوا هدوءاً وأماناً أجازوا الرحلة، فتأتي الرحلة بسلامة الله وتأخذ شركة التأمين أجرتها، وكما يقول من كتب في عقود التأمين: أسلم وأول عقود التأمين هو التأمين البحري، كذلك تأمينها من القراصنة؟ هل هي سفينة محصنة قوية أو ضعيفة يمكن للقراصنة أن يأخذوها.
إذاً: كل هذا فيما يتعلق بركوب البحر.
فإذا قال رجل الآن لا تضع مالي في البحر، قال: البحر اليوم ليس مثل أمس مهلكة، البحر الآن أصبح مأموناً أكثر من البر؛ لأن قراصنة البحر تعجز عن السفينة الكبيرة، وقطاع الطريق في البر لا يعجزون عن القافلة بالإبل.
إذاً: لو قال: لا تضع مالي في البحر، وقالها بناءً على ما سبق نقول: النظر يختلف، ونقول: واجب العلماء أن ينظروا في الواقع الماضي والواقع الحاضر.
[ (أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني ورجاله ثقات] .
إن فعلت شيئاً من ذلك فقد أصبحت ضامناً بفعلك هذا، فإن وقعت هناك خسارة دفعتها، وإن لم تقع خسارة فأنت برضاك ضامن.