وهناك قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أريد عمرة، فقال لها صلى الله عليه وسلم:(يكفيك عمرتك مع حجك) لأنها بدأت أول ما بدأت من ذي الحليفة متمتعة، لكنها لما وصلت إلى سرف -وسرف قبل مكة بمرحلتين- أتتها الحيضة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال:(ما يبكيك لعلك نفست؟) والحيض يطلق عليه نفاس أيضاً، قالت:(نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي قوله صلى الله عليه وسلم هذا يرد به العلماء على من قال: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(هذا أمر كتبه الله على بنات حواء - أي: من أول الدنيا- اغتسلي وقولي: حجة في عمرة) فكانت متمتعة ولكن الحيضة منعتها من أن تتحلل من عمرتها قبل الحج، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، ولما طهرت طافت للحج والعمرة معاً، فكانت قارنة قد جمعت بين النسكين، فقالت: أترجع صاحباتي كلٌ بحج وعمرة، يعني: مفردة مستقلة، وأرجع أنا بحجة فقط؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن:(اذهب بأختك وأعمرها من التنعيم) والتنعيم هو: المكان المعروف الآن بـ (مسجد عائشة) ، والمسافة بينه وبين الحرم المكي سبعة كيلومترات، وهذا كما يقولون: هو أدنى الحل، لأن حرم مكة وحلها متفاوت المسافات، فبعض الجهات الحل بعيد فيها كما هو الحال فيما وراء مزدلفة، وبعض الجهات قريب؛ كالتنعيم، إذ لا يتجاوز سبعة كيلو مترات، وبعض جهات الحل المسافة إليها فوق العشرين كيلو متراً، فأدنى الحل في مكة إلى الحرم هو التنعيم، ومن هنا اشترط العلماء أن كل مكي سواءً كان آفاقياً أو مكياً أصلياً إذا أراد العمرة فإن عليه أن يخرج من حدود الحرم إلى أدنى الحل، ويعقد الإحرام هناك، ويدخل إلى الحرم عاقداً نية العمرة، وهذا يؤديه المعنى اللغوي؛ لأن العمرة هي بمعنى الزيارة، والحج هو بمعنى القصد إلى معظم، فكيف تكون زيارة وأنت تحرم من وسط البيت؟ وكيف تزور وأنت جالس في البيت؟ فالزائر لابد أن يأتي من الجانب، كما يقولون: الزور، والزور يكون من فتحة الفم، ويعمل زاوية وينزل إلى الرقبة إلى الجوف، يعني: الزائر يأتيك عن جنب، كما أن الزور يأتي عن جنب من الفم، فلا يتأتى أن يقول القائل: أنا زائر وهو جالس في البيت، بل لابد من الخروج.
ويستدلون على ذلك أيضاً أن ابن الزبير لما بنى الكعبة على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين مساويين للأرض، لما أتم البناء خرج بأعيان مكة إلى التنعيم، وأحرموا منه وجاءوا بعمرة شكراً لله على إتمام بناء الكعبة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن من كان في مكة وأراد العمرة فلابد أن يخرج إلى الحل، وقالوا: كل نسك عمرة أو حج لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، أما العمرة فكما ذكرت، وأما الحج فإن من جاء متمتعاً وأحرم يوم التروية من مكة فإنه سيخرج إلى الحل -أي: إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم- ثم ينزل ويدخل إلى الحرم ليكمل نسكه.
فخرجت عائشة مع أخيها وأتت بعمرتها، وانتظرهما صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر، ثم رجعوا إلى المدينة.